د. طلال عتريسي
التحوّلات التي تشهدها مؤسّساتنا الاجتماعيّة والأسريّة قد تكون نتاج أسباب كثيرة ومتنوّعة، منها ما هو بسبب تطوّر العلوم والتقنيّات (مثل وسائل التواصل الحديثة)، أو نتاج حاجات اقتصاديّة أو ثقافيّة جديدة (مثل عمل المرأة). لكنّ هذه التحوّلات قد تكون أيضاً نتاج خطط وبرامج ثقافيّة موجّهة لتغيير نمط حياة الأسرة وطبيعة العلاقات بين أفرادها.
هذا التحوّل المطلوب في الأدوار الأسريّة ليس سوى تقليد للنموذج الغربيّ المعاصر، الذي يقدّم نفسه نموذجاً إنسانياً عالميّاً، علينا وعلى باقي الشعوب والأمم الاقتداء به.
لا يتّسع المجال لتفصيل طبيعة هذا الاختراق وكيفيّته على المستويات كافّة؛ لذا سنشير إلى أربعة مرتكزات أساسيّة يتمّ استهدافها بأساليب مختلفة؛ لإنجاز عمليّة التحوّل، التي لن تؤدّي في نهاية المطاف سوى إلى تفكيك المنظومة الأسريّة، التي نعرفها ونعيش في ظلّها.
1- تصوير الأسرة كمؤسّسة سلبيّة
تقوم هذه الركيزة على تقديم الأسرة بصورة سلبيّة. ولمن يريد التأكّد من هذه الصورة، يمكن أن يراجع أدبيّات الجمعيّات النسائيّة ووثائق الأمم المتّحدة حول المرأة، والتي لا تقدّم الأسرة إلّا كمكان للهيمنة والتسلّط والتعنيف والاستبداد وظلم المرأة ومنعها من حريّتها ومن تحقيق ذاتها. في حين لن نعثر في تلك الأدبيّات على أيّ جملة يمكن أن تشير إلى السكن، أو الأمان، أو الرحمة، أو العاطفة، أو البّر، أو الصبر، أو التحمّل، أو التضحية، أو المودّة... وسوى ذلك ممّا تتّصف به الأسر في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة عموماً.
2- إدانة "النظام الأبويّ"
"النظام الأبويّ" أو "النظام الذكوريّ" أو "المجتمع الذكوريّ"، كلّها مسمّيات لمعنى واحد، المقصود منه سلطة الزوج وسلطة الأب، باعتبارها هي السبب في منع تمكين النساء والفتيات. وعادةً ما يتمّ البحث عن سلبيّات تعيشها بعض الأسر، فيتمّ تعميمها وربطها بالدور الأبويّ، بحيث يصبح النظام الأبويّ الذكوريّ مرادفا ًلتعنيف المرأة ولقمع حريّتها، ولمنعها من الخروج، ومن زواج الفتاة بمن تريد... وكلّ ما يتّصل بالقهر أو التسلّط أو التعنيف ومنع المساواة، هو من نتاج هذا النظام الأبويّ.
هذا النظام، بحسب النظرة الغربيّة، لا يمتلك أيّ إيجابيّة، وليس في السلوك الأبويّ أيّ ميزة عاطفيّة، أو أخلاقيّة أو إنسانيّة، وتمّ تكريسه كسمةٍ من سمات التخلّف. وهكذا، تتمّ شيطنة "الأبوّة" و"الذكورة" بحيث يصبح مطلب الإطاحة بالنظام الأبويّ والتخلّص منه مطلباً حديثاً لمصلحة المرأة، بغضّ النظر عن حالتها الزوجيّة، -ابنة أو زوجة- وتغييراً يوائم "متطلّبات العصر"، وينسجم مع مطالب الأمم المتّحدة، دون أن يقدّم لنا هؤلاء الشكل الأفضل الذي يريدونه للأسرة، وأيّ توزيع للأدوار وللمسؤوليّات سيكون بين أفرادها، وأيّ استقرار ستشهده هذه الأسر بعد الإطاحة بالنظام الأبويّ.
إنّ شيطنة النظام الأبويّ هدفه القول: "إنّ مثل هذا النظام قد تجاوزه الزمن وبات من الماضي، أو كأنّه شيء مخالف لطبيعة المجتمعات أو لطبيعة الرجل أو لطبيعة الأنثى". وعلى هذه السلبيّة أو الشيطنة للذكوريّة وللأبويّة سوف تتدحرج سلسلة كاملة من التغيير في الأدوار داخل المنظومتين الأسريّة والاجتماعيّة.
من المهمّ أن نلاحظ هنا كيف تتمّ شيطنة السلطة الذكوريّة داخل الأسرة تحديداً، في حين يتمّ تجاهل هذه الذكوريّة التي تخضع لها المرأة في معظم المؤسّسات التي تعمل فيها خارج البيت (مثل المؤسّسات التجاريّة، والتعليميّة، والمصرفيّة، والإعلاميّة، والسياحيّة، وسواها).
3- تبخيس الدور الأموميّ
تتمّ عمليّة تبخيس هذا الدور من خلال التركيز على:
أ- إضافة قيمة لعمل المرأة خارج البيت.
ب- ربط هذه المكانة بتحصيل المال وتحقيق الذات والاستقلال.
ج- أنّ الدور الأموميّ غير منتج ماديّاً.
د- أنّ الدور الأموميّ يساهم في تثبيت السلطة الذكوريّة وفي تكريس السلطة الأبويّة.
والنتيجة هي تبخيس عمل المرأة المنزليّ؛ لأنّه خضوع لإرادة النظام الأبويّ، ولأنّه عمل لا يدرّ مالاً. ما يعني بشكل واضح ومباشر أنّ هذه الأدبيّات تنتمي إلى ثقافة تقول إنّ القيمة الفعليّة والمكانة التي يجب أن تحصل عليها المرأة متعلّقة بما تنتجه من مال، وأنّ هذا المال لن تحصل عليه إلّا من عملها خارج المنزل. وهذه الثقافة -كما هو معلوم- هي "ثقافة السوق" التي تربط بين المكانة الاجتماعيّة وبين القدرة على التملّك والاستهلاك والإنفاق.
يترافق هذا التبخيس للدور الأموميّ، ولإضافة قيمة إلى العمل المدفوع الأجر، مع ترويج نفسيّ ملائم يؤكّد على التعارض بين تأكيد الذات والفردانيّة والحريّة والاستقلال عند المرأة، مع النظام الأبويّ الذي يسير في الاتّجاه المعاكس لهذه القيم لأنّه نظام تسلّطيّ واستبداديّ بحسبهم(1).
4- تمكين الفتيات
جاءت الدعوة إلى هذا التمكين في الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة (الأمم المتّحدة)، الذي حمل عنوان: المساواة بين الجنسَين، وتمكين كلّ النساء والفتيات على جميع المستويات، والذي يدعو في الوقت نفسه إلى القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ النساء والفتيات في كلّ مكان، وحصول النساء على فرص تعليم وعمل مساوية للرجال، والاعتراف بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر والعمل المنزليّ، وتعزيز تقاسم المسؤوليّة داخل الأسرة المعيشيّة والعائلة(2).
كانت دعوات التمكين السابقة تقتصر على المرأة فقط، وعلى ربط هذا التمكين اقتصاديّاً بالمساواة في الأجر وفي التعليم وفي الحصول على الوظائف. لكنّ السؤال المريب: لماذا أضيفت الفتيات إلى أهداف التمكين؟ ولماذا التمييز بينهنّ وبين النساء؟ وما الذي تختصّ به الفتيات من التمكين ولا يشمله تمكين النساء؟
استناداً الى أدبيّات الجندر(3) المختلفة، وإلى "اتفاقيّة سيداو"، وإلى وثائق الأمم المتّحدة، فإنّ هذا التمكين سيكون في الحريّة التي يجب أن تحصل عليها الفتاة، والتي يعيقها "النظام الأبويّ الذكوريّ". وهذه الحريّة ستكون في الجوانب السلوكيّة، وفي حريّة التنقّل، والسفر، والعلاقات مع الجنس الآخر. وإذا مُنعت الفتاة من أشكال من الحريّات هذه، سيكون ما تتعرّض له نوعاً من أنواع العنف الذي ترفضه الأمم المتّحدة والنسويّة الجندريّة، وتعتبره تسلّطاً أبويّاً وذكوريّاً.
جاء في اقتراح قانون تقدّمت به في نهاية عام 2018م "جمعيّة كفى" اللبنانيّة، وهي جمعيّة تهتمّ بقضايا التمكين والجندر والمساواة، حول حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسريّ في المادّة الثانية رقم 8: "العقوبة من سبع إلى عشر سنوات.. إذا أقدم أحد أفراد الأسرة على حرمان شخص آخر من حريّته". ويُعتبر عنفاً ضدّ المرأة "القسر أو الحرمان التعسّفيّ من الحريّة، سواء حدث ذلك في الحياة العامّة أو الخاصّة"(4).
•الهدف: تفكيك المنظومة الأسريّة
إنّ ما يجري وفق هذه التحوّلات التي أشرنا إليها هو تحويل متعمّد للعلاقات الأسريّة إلى علاقات صراعيّة وليس إلى علاقات تضحية ومودّة ورحمة وصبر وتحمّل، كما نعرفها لدى الآباء والأمّهات في مجتمعاتنا، وكما هي في المنظور الإسلاميّ. وما يجري هو التركيز على جوانب سلبيّة وتضخيمها وتعميمها.
إنّ فصل الأدوار الأسريّة عن بُعدها الدينيّ والأخلاقيّ، وتوهين النظام الأبويّ، وتبخيس دور المرأة الأموميّ، وتعظيم حريّة الفتيات، لن يؤدّي سوى إلى تفكيك المنظومة الأسريّة، في الوقت الذي يظنّ فيه بعضهم أن الهدف من بثّ هذه المفاهيم هو الدفاع عن المرأة من خلال "التمكين"، و"تقدير الذات".
على ضوء هذا الاستهداف للمفاهيم المتعلّقة بالأدوار الأسريّة، يمكن أن نفهم اليوم الكثير من المشكلات الزوجيّة، ومن حالات القلق النفسيّ عند النساء، والكثير من حالات الطلاق؛ لأنّ مرجعيّة الأدوار الأسريّة عندما تصبح غير ثابتة أو غير مستقرّة، ستؤدّي بطبيعة الحال إلى الاضطراب وإلى القلق، خاصّة وأنّ النماذج البديلة (مثل المساكنة، أو الأسر من الجنس نفسه..) ليست سوى تجارب غربيّة غير مطمئِنة، وغير آمنة، ولا علاقة لها على الإطلاق بثقافتنا الدينيّة والأخلاقيّة.
(*) الملتقى الثقافي التربوي الأول "الأسرة التحديات وسبل المواجهة" بيروت في 22/7/2020م.
1.راجع: "الجندر بما هو تحيّز ثقافيّ غربيّ"، طلال عتريسي، مجلّة الاستغراب، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، بيروت، عدد 16، صيف 2019م.
2.برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ في الدول العربيّة، أهداف التنمية المستدامة، الهدف الخامس للمساواة بين الجنسين.
3.الجندر، مصطلح ظهر في السبعينيّات مع الحركات النسويّة ليعني: "الأدوار والعلاقات والسلوك الذي يحدّده المجتمع لكلّ من الرجل والمرأة في ضوء موروثات اجتماعيّة بمعزل عن البيولوجيّة". وتطوّر، لاحقاً، في بعض اتّجاهاته إلى إلغاء أشكال التمييز الاجتماعيّ والأسريّ، بين المرأة والرجل؛ بحجّة أنّها أشكال جبريّة تمييزيّة من اللامساواة الاجتماعيّة.
4.موقع الأمم المتّحدة حقوق الإنسان، مكتب المفوّض الساميّ.