السيّد علي عبّاس الموسويّ
لا يخلو إنسان من نمط حياة أو عيش يسير فيه، إمّا أن يكون ملتفتاً إليه ومخطّطاً له، أو مجهولاً لديه يعيشه في اللاشعور. وتكمن أهميّة الإضاءة على نمط الحياة في نقاط متعدّدة، أهمّها معرفة الإنسان للغاية التي يريد الوصول إليها، وتحديد الطريق الضامن لسلامة الوصول.
•تعريف نمط الحياة وضرورته
نقوم أحياناً بعمليّة تصنيف للناس بحسب تفاعلهم مع الأحداث وطريقة تصرّفهم؛ ففلان هادئ، وآخر عصبيّ، وثالث لا يبالي، وتتّسع الصورة عندما نراقب كيفيّة عيشهم في مختلف الظروف والحالات، وهكذا تحكي تصنيفاتنا لهم عن الصورة المتلقّاة في أذهاننا عنهم، وهي بوضوح ما يمكننا أن نطلق عليه "نمط حياتهم".
إذاً، يمكننا القول إنّ نمط الحياة هو الصورة التي يكون عليها الشخص في أسلوب الحياة أو المنهج. وهذه الصورة تتشكّل بسبب مجموعة من العوامل والأسباب نطلق عليها محدّدات نمط الحياة، فما هي هذه المحدّدات؟
1- النشأة في مرحلة الطفولة: فهذه المرحلة هي مرحلة تكوين الشخصيّة. ولأنّ الظروف في هذه المرحلة هي من المحدّدات الرئيسة لنمط حياة الإنسان، كانت عناية التشريع بتفاصيل التنئشة الدينيّة والأخلاقيّة؛ لأنّها تحدّد مستقبل ومسار الإنسان.
2- المعتقدات أو الرؤية الكونيّة: فالرؤية الكونيّة هي التي تجيب عن أسئلة الحياة: من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ السلوك الاجتماعيّ ونمط الحياة، تابع لفهمنا للحياة: ما هو الهدف من الحياة؟ إنّ أيّ هدف نحدّده للحياة، وكلّ هدف نرسمه لنا، ويكون مناسباً لنا بالطبع، فهو يقدّم لنا نمط حياة معيّناً. مضافاً إلى ذلك، ثمّة نقطة أساسيّة وهي الإيمان. يجب أن نحدّد هدفاً للحياة ونؤمن به، إذ لا يمكن التقدّم في هذه الأقسام من دون إيمان، ولا يحصل عمل صحيح بدونه، ولذلك يتمّ اختيار نمط الحياة على أساس هذا الإيمان"(1).
3- المحيط وبيئة العيش: ما يصطلح عليه بالإنسان الكبير؛ أي المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، يؤدّي دوراً بارزاً في رسم نمط حياة هذا الإنسان؛ لأنّ تأثيره في حياة الفرد ذات مساحة واسعة؛ ولذا اعتنى الإسلام أيضاً بوجود بيئة اجتماعيّة سليمة تضمن سلامة السلوك الإنسانيّ.
•أهميّة معرفة نمط الحياة
تكمن أهميّة معرفة نمط الحياة بملاحظة أبعاد ثلاثة:
1- البُعد الأول: ثابتة مفادها أنّ كلّ المحدّدات لا يمكنها أن تغلب عنصر الاختيار الإنسانيّ؛ وبهذا، فالمعرفة سوف تنعكس سلوكاً منسجماً معها مهما كانت الظروف.
فالإنسان الذي يهتدي بعد ضلال، ويبصر الحقّ فيتّبعه، تجده يتمكّن من التغلّب على نمط حياته السابق ليطابق كلّ عيشه على سلوك الهدى وأهله.
2- البُعد الثاني: ضمانة الوصول إلى الغاية: فالسعي الإنسانيّ نحو الكمال فطريّ، ولكنّ نمط الحياة يرسم طرق الوصول للكمال في أفق النفس، فيكون بذلك مالكاً للعقل الغالب على الهوى، والذي يحفظ مشياً سليماً في مأمن من الانحراف.
3- البعد الثالث: معرفة خطأ الأنماط الأخرى؛ التي يسلكها الآخرون، وقد يستهويه نمط خاطئ، جذبته صورة ما فيه، فيغفل عن حقائق بديهيّة. وفي قصّة قوم موسى عليه السلام عبرة عندما وصفهم القرآن الكريم: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ (الأعراف: 138)، وكان جواب نبيّهم لهم أنّ هذا ناشئ من الجهل: ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (الأعراف: 138).
•مصادر معرفة نمط الحياة
بما أنّنا نتحدّث عن جماعة تعتقد بدين الإسلام الخاتم بوصفه دين خلاص البشريّة والحقّ الخالص، فسوف تتحدّد تلك المصادر بالآتي:
1- الكتاب الكريم: وهو المصدر التشريعيّ المعصوم والمصون من الخطأ والانحراف، فهو الذي يرسم الخطوط العامّة لنمط الحياة، ففي دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في ختمة القرآن: "اللَّهُمَّ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنَا مِنْ عَدَمِ الإِمْلاقِ، وَسُقْ إِلَيْنَا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأَرْزَاقِ، وَجَنِّبْنَا بِهِ مِنْ الضَّرَائِبِ الْمَذْمُومَةِ وَمَدَانِي الأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنَا بِهِ مِنْ هَبْوَةِ الْكُفْرِ وَدَوَاعِي النِّفَاقِ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا فِي الْقِيَامَةِ إِلَى رِضْوَانِكَ وَجِنَانِكَ قَائِداً، وَلَنَا فِي الدُّنْيَا عَنْ سَخَطِكَ وَتَعَدِّي حُدُودِكَ ذَائِداً"(2).
2- السنّة الشريفة: وهي المصدر التشريعيّ الثاني، بمقتضى أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مكلّف بالوحي الإلهيّ ببيان الأحكام للناس في تفاصيل لم ترد في الكتاب الكريم، وسنّته ثابتة بمقتضى أنّ حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(3).
3- العترة الطاهرة: والتي تدخل في سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارهم الذين أمر الله بالرجوع إليهم وباتّباعهم، فهم كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام: "عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ، يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ. لاَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. هُمْ دَعَائِمُ الإِسْلاَمِ، وَوَلاَئِجُ الاعْتِصَامِ، بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ فِي نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ، عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَايَةٍ. فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ"(4).
4- الوليّ الفقيه: انطلاقاً من وجود حاجات متجدّدة، لا بدّ للناس من الرجوع إلى مصدر في تحديد الموقف منها، فكانت دائرة صلاحيّات الوليّ الفقيه التي ترسم بالأحكام الولائيّة نمطاً معاصراً للحياة، يجعل المجتمع الإسلاميّ متكيّفاً مع كلّ المتغيّرات، مع المحافظة على ثوابت الشريعة الإسلاميّة.
•الإسلام يرسم نمط الحياة
تشكّل المنظومة التشريعيّة والحقوقيّة في الإسلام سبلاً واضحة لرسم نمط الحياة الخاصّ بأتباعه، وذلك ما نلحظه في عناوين متعدّدة نشير إلى ثلاثة منها:
1- التعاليم التشريعيّة العباديّة: وهي تشكّل جزءاً أساساً من هذا الدين، والفرائض العباديّة، مضافاً إلى ما تقوم به من دور في علاقة العبد بربّه، فإنّها ترسم للإنسان أسلوب حياة، وبحكمة تنوّعها تكفل تنظيم حياة الإنسان اليوميّة، كعبادة الصلاة التي ترسم بالمحافظة عليها في أوقاتها مسؤوليّة تنظيم القيام بها، أو تنظيم حياة الإنسان السنويّة في عبادة الصوم التي تنتقل به إلى تنظيم علاقته بالمأكل والمشرب وسائر المباحات التي يُطلق عليها المفطرات، فيتقيّد بها في أوقات معيّنة، وينعكس ذلك في مختلف جوانب حياته.
2- نظام المعاملات: وهو الجزء الرئيس الآخر في التشريع الإسلاميّ، والذي يفرض على الإنسان أسلوباً في ما يسمّى (المعايش)، وقد ورد في الرواية المشهورة تقسيم هذه المعايش إلى أربعة أقسام: الولاية، والتجارة، والإجارة، والصناعة، وتدخّل الإسلام في رسم الحلال والحرام فيها جميعاً، وبالتقيّد بها يرتسم أسلوب الحياة في الرؤية الإسلاميّة. وكمثال على ذلك، فإنّ حرمة الربا كحدّ فاصل بين التشريع الإسلاميّ والتشريعات الأخرى سوف يرسم نظام معاملات خاصّاً، يقوم على التوازن الاجتماعيّ، ولذا يشير الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سرهإلى نمط الحياة الإسلاميّ في توزيع الثروات بأنّه يقوم -في التصوّر الإسلاميّ- على الحقوق الإنسانيّة الثابتة الّتي تُعبّر عنها خلافة الإنسان في الأرض، والتي تؤكّد على الحقّ، والعدل، والمساواة، والقيم، والكرامة وغيرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تؤكّد على شجب علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الإنتاج وشكله(5).
3- الشعائر الدينيّة: الشعيرة هي ما نتلقّاه من الدين بوصفه علامة دعا الشارع للحفاظ عليها: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32)، وهي من أهمّ تطبيقات نمط الحياة الإسلاميّ، ومنها على سبيل المثال، الصلاة في المساجد، فهي تفرض سلوكاً في حياة الإنسان، وأسلوباً في التلاقي والتعامل مع الناس يفرضه البُعد المعنوي فيها وفي آداب الحضور إليها.
وكذلك المجالس الحسينيّة، فهي تشكّل نمط الحياة الخاصّ بأتباع أهل البيت عليهم السلام، يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ البكاء والتضرّع في مجالس أهل البيت عليهم السلام ومحافل الشهداء ليس بكاء ضعف، بل هي مشاعر سامية لإنسان، يقف في وسط الميدان، ووسيلة للشعور بالعزّة والقوة والشجاعة، وإنّ الأئمّة الأطهار عليهم السلام كانوا المؤسّسين لهذه السنّة والمروّجين لهذه المجالس"(6).
1.خطاب للإمام الخامنئيّ دام ظله، بتاريخ 23/7/1391هـ.ش.
2.الصحيفة السجادية، الدعاء 42.
3.الكافي، الكليني، ج1، ص58.
4.نهج البلاغة، الخطبة 239.
5.راجع: اقتصادنا (المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام)، محمّد باقر الصدر، ص350.
6.خلال لقائه حشداً من الشعراء وقرّاء مدائح أهل البيت عليهم السلام، بتاريخ 2020/2/15م.