د. أميرة برغل(*)
لقد درجت، مع الأسف، في السنوات الأخيرة، ظاهرة مقلقة، ألا وهي ظاهرة استسهال التفوّه بالبذاءة في الألفاظ والأقوال بين الفئات الشبابيّة. وممّا يحزن -حقّاً- هو انتقال عدوى هذه الحالة، البعيدة كلّ البعد عن التعاليم الدينيّة، إلى بعض البيئات الملتزمة، الأمر الذي يدعو المعنيّين بالشأن الدينيّ والتربويّ إلى رصد أسباب هذه الظاهرة في مجتمعاتنا، والعمل على محاصرتها قبل استفحال أمرها.
•الشتائم نمطٌ غربيّ
تقف وراء هذه الحالة في مجتمعاتنا، كما هو الحال دوماً في العقود الأخيرة، العولمة الثقافيّة. وبالنظر إلى بعض الجذور نجدها "مستوردة"، تلك العولمة التي تنقل إلى شبابنا، بسرعة البرق، أنماط العيش الجديدة في الغرب وأساليبه، بطرق متنوّعة ومؤثّرة وجذّابة، منها:
1- البرامج التلفزيونيّة: ومن أهمّ تلك الأساليب المستخدمة في هذا المجال: الأفلام الكرتونيّة للصغار والمسلسلات والأفلام السينمائيّة لليافعين والكبار، علاوةً على وسائل التواصل التي أضحت مسرحاً مجانيّاً، ينقل على مدار الساعة إلى أولادنا، وبالصوت والصورة، كلّ ما هو غثّ ومبتذل من دون حسيب ولا رقيب.
2- التشجيع على الشتم: الأدهى من ذلك، هو ما يضفيه الغربيّون -عادةً- من لبوس علميّ على ما يصدِّرونه لنا من سلوكيّات، وهنا مكمن الخطر الكبير. فمن خلال البحث عن الأسباب الثاوية وراء هذا النوع من السلوك الممجوج، نتفاجأ بتبنّي عدد من علماء النفس نظريّات تدّعي أنّ الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة، تؤكّد من خلال التجارب التي قاموا بها أنّ التلفّظ بمثل هذه الألفاظ يقوّي الشخصيّة، ويرفع مستوى الذكاء والقدرة على التحمّل لدى الأفراد!
وكمثال على ذلك، ما أوردته الكاتبة البريطانيّة "ليندسي دودجسون"(1)، في مقالة: "إنّ الألفاظ النابية والكلمات البذيئة تساعدنا أكثر في التعبير عن أنفسنا، كما تساعدنا في تخفيف الآلام الناتجة عن الضغط النفسيّ، والجهد الجسديّ، مثل رفع الأوزان". وتستند الكاتبة في مقالتها إلى أبحاث متعدّدة في مجال علم النفس الاجتماعيّ، لإثبات أنّ "استخدام اللغة البذيئة يمنح المرء القدرة على التعبير بشكل أفضل عمّا يجول في خاطره، أكثر من استخدام اللغة الانضباطيّة"(2).
يشكّل مكمن الخطورة الأكبر في هذا الترويج أنّه قد يغري قسماً من الشباب بالتماهي مع هذه السلوكيّات الهابطة والمخالفة للذوق الدينيّ والأدبيّ والأخلاقيّ بداعي التطوّر والحداثة، على الرغم من ظهور أبحاث موثّقة، تثبت العكس.
•سبل التصدّي لهذه العدوى
إنّ التصدّي لهذه الظاهرة ومثيلاتها من الظواهر، التي تهدد مجتمعاتنا بالحرمان من العيش بهناء وفق معايير الحياة الطيّبة التي يرتضيها الله لعباده، ونظراً إلى تعقيدات الحرب الناعمة، يتطلّب العمل على أصعدة عدّة:
1- على الصعيد العقليّ - المعرفيّ: العمل على هذا الصعيد هو شأن المتخصّصين في العلوم الإنسانيّة، وتحديداً على صعيد علمَي النفس والاجتماع، فقد بات من الضرورة بمكان تكاتف الجهود ضمن مركز بحثيّ يناقش ما يصدر من نظريّات وطروحات، تعمل على تهديم القيم الإنسانيّة وشرعنة الابتذال والتفلّت من كلّ القيود، ويتصدّى للردّ عليها بطريقة علميّة. فقد أشرنا إلى وجود الكثير من النظريّات العلميّة الموثوقة، والتي تتناقض مع مثل هذه النظريّات، إلّا أنّه ليس هناك من يروِّج لها.
أ- الكلمات البذيئة تضرّ بصاحبها: أثبت العالم الروسيّ الكبير، رئيس مركز سلامة البيئة والبقاء في موسكو "البروفيسور جينادي شورين"، أثر الكلمة الخبيثة على جسم الإنسان، حيث نشر دراسة جاء فيها: "إنّ الكلمات غير المؤدّبة التي تُستخدم في الحديث اليوميّ، كالشتائم والسباب والكلمات التي تنطوي على تحقير للآخرين، تربك الكثير من العمليّات الحيويّة داخل الجسم، وتضرّ قائلها أكثر ممّا تضرّ الشخص الموجّهة إليه". ويرى البروفيسور "جينادي شورين"، أنّ التفسير الوحيد لتراجع قدرة الرجال على الإخصاب هذه الأيّام هو انتشار الكلمات التي كان الحياء في الماضي يمنع جريانها على ألسنة الناس، وتشبُّه النساء بالرجال في هذا العصر سببه استخدامهنّ هذه الكلمات في حياتهنّ اليوميّة.
ب- تحوّلات في جسم الإنسان: بعد أن أجرى البروفيسور "جينادي شورين" ومجموعة من رفاقه، تجارب على النباتات، ورصد مدى آثار الكلام السيّئ عليها، قال: "يصعب تصوّر التحوّلات التي يخضع لها جسم الإنسان عندما نستخدم عبارات بذيئة وخبيثة في كلامنا".
ج- ضرورة مواجهة الحرب الناعمة: أشار الإمام الخامنئيّ دام ظله لهذا الأمر، ودعا الشباب الجامعيّ إلى الاهتمام به، ففي لقاء له عام 2015م مع أساتذة الجامعات، اعتبر سماحته أنّ للحرب الناعمة، كالحرب الصلبة، ضبّاطاً وقادة، وأنّه إن كان الشباب هم ضبّاط الحرب الناعمة، فقادتها هم أساتذة الجامعات(3).
2- على الصعيد الذوقيّ - المشاعريّ: العمل على هذا الصعيد هو بشكل أساسيّ شأن الأدباء والفنّانين على مختلف اختصاصاتهم الجماليّة، والإنسان مفطور على حبّ الجمال والكمال. ومن أخطر ما يمكن فعله هو تشويه فطرة الإنسان والسعي لضمور النزعة الجماليّة لديه.
أ- أزمة في سلوك الغربيّ: إنّ الكثير من المفكّرين الغربيّين، حتّى العلمانيّين منهم، استشعروا هذا الخطر الكبير الذي تسير البشريّة نحوه، تحت وطأة النزعة الماديّة الفرديّة الرأسماليّة المتوحّشة؛ بمعنى هيمنة الفرد الواحد المنفرد، الأنانيّ، المتبجّح، المُطالب.. انتشار الأميّة حتّى بين الذين يُفترض بهم حمل المعرفة وامتلاكها... الابتذال الذي أصبح يُعلَّق كقلادة ويُحتفى به كجماليّة عندما يقترفه لاعبو كرة القدم والممثّلون والرياضيّون بصفة عامّة والمغنّون ذوو الشهرة والنجاح ومقدّمو البرامج في التلفزيون، رفض البلوغ والوصول إلى الرشد والأطفلة جعل الراشد يعيش نكوصاً كالصغار. يقول "بريجنسكي" المستشار السابق للأمن القوميّ في أمريكا في كتابه "الانفلات": "إنّ ما نعانيه هو أزمة في سلوك الإنسان الغربيّ وفي الأفكار التي تشكّل هذا السلوك، إذ نتيجة للنسبيّة في الأخلاق ونتيجة للإباحيّة، لم نعد نعرف يقيناً من هو الإنسان الصالح، وما هو العمل الصالح، وما هو المجتمع الصالح؟". ولا شكّ في أنّ أكثر ما يؤثّر في بناء ذوق الإنسان ومشاعره، الأعمال الفنيّة كالأفلام والمسلسلات والقصص والشعر والموسيقى والرسومات... فهي إمّا أن ترتقي بذوقه وتجعل منه إنساناً متحضّراً خليفة لله عزّ وجلّ، وإمّا أن تحرّك فيه النوازع الغرائزيّة الحيوانيّة التي تدفع به باتّجاه التسافل حتّى تجعله كالأنعام، بل أضلّ(4).
ب- أهميّة الأعمال الفنيّة: في هذا المجال، للإمام الخامنئيّ دام ظله مناشدات عديدة يدعو فيها أصحاب المواهب الفنيّة ليسخِّروا ما حباهم به الله من إبداع في خدمة رقيّ الإنسان وتكامله، ففي لقاء له مع حشد من المنتجين والمخرجين والفنّانين في مؤسّسة التلفزيون الإيرانيّ عام 2018م، رأى سماحته أنّ الفنّانين والمفكّرين في الحرب الناعمة، كالقوّات المسلّحة في الحرب العسكريّة، مؤكّداً الأهميّة الكبيرة للأعمال الفنيّة في مواجهة تلك الحرب(5). وما شاهدناه مؤخّراً من إبداع في بعض المسلسلات الاجتماعيّة الإيرانيّة، كمسلسل "ستايش" ومسلسل "الأب"، أو الدينيّة، كمسلسل "يوسف الصدّيق عليه السلام "، ومسلسل "مريم المقدّسة عليها السلام"، وما تركته من آثار في رفع المستوى الأخلاقيّ والقيميّ للشباب، لأكبر دليل على فاعليّة هذه الوسائل.
وقد أكّد ذلك "البروفيسور جينادي" نفسه، فقد صرّح بأنّه توصّل إلى حقيقة مفادها: أنّ الكلمات التي نستخدمها تحتوي على خاصيّة تشبه السحر، ولذلك نشعر بالارتياح عندما نسمع كلمة "وردة" مثلاً، ونشعر بالضيق عندما نسمع كلمة "شوكة". وهذا الإحساس الذي نحسّ به يُطلِق سلسلة من التفاعلات داخل أجسامنا لها أوّل وليس لها آخر.
3- على الصعيد التربويّ - السلوكيّ: العمل على هذا الصعيد هو شأن الموجّهين والمربّين وعلى رأسهم علماء الدين والآباء والمعلّمون، الذين هم ورثة الأنبياء؛ فكلّنا يعلم أنّ مهمّة الأنبياء الأولى والأساسيّة كانت ولا زالت: التربية الأخلاقيّة، وليس أدلّ على ذلك من قول آخر الأنبياء وخاتمهم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"(6).
فالملاحظة تدلّ على وجود نقص كبير عند الجيل الجديد في الاطّلاع على الأحاديث المتعلّقة بآداب الكلام وحسن العشرة، على الرغم من أنّ المباحث والأحاديث المتعلّقة باللسان والكلام وآدابه وعواقبه كثيرة جدّاً، ولكنها مجهولة من قبل الشباب، ما يدلّ على خلل ما في العمليّة التربويّة. فالفحش من العادات القبيحة التي لا ينبغي أن تكون في الإنسان المؤمن. وقد وصفت الروايات الشريفة الإنسان الفاحش بأوصاف كثيرة، منها:
أ- أنّه مبغوض لدى الله تعالى، فعن الإمام الباقر عليه السلام : "إن الله يبغض الفاحش المتفحّش"(7).
ب- أنّه سفيه، فعن الإمام عليّ عليه السلام : "أسفه السفهاء المتبجّح بفحش الكلام"(8).
ج- أنّه من أهل النار، فعن الإمام الصادق عليه السلام : "من خاف الناس لسانه فهو في النار"(9).
د- أنّه من شرّ الناس، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من شرّ الناس من تركه الناس اتّقاء فحشه"(10).
•"معلّم نفسه ومؤدّبها"
على المعنيّين بالعمليّة التربويّة تثقيف الأولاد منذ نعومة أظافرهم بهذه المعارف، والمبالغة في تأديبهم عليها بكلّ الأساليب المتناسبة، مع مراعاة حاجاتهم ومراحلهم العمريّة، وقبل كلّ شيء عليهم أن يكونوا قدوة صالحة لهم، إذ إنّه وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام : "مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ"(11).
(*) باحثة ومستشارة تربويّة.
من مقالة للكاتبة البريطانيّة "دودجسون" في مجلة "بزنس إنسايدر" الأمريكيّة.
2.راجع: https://www.qposts.com/ علم النفس: وراء الشتيمة لماذا نستخدمها.
3.https://www.almaaref.org.lb/subcatdetails.php?subcatid=2187&cid=717&spcat=72 2
4.تأمّل في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179).
5.راجع: https://alwelayah.net/post/39258
6.بحار الأنوار، المجلسي، ج16، ص210.
7.(م.ن)، ص2376.
8.(م.ن).
9.(م.ن)، ص2377.
10.(م.ن).
11.نهج البلاغة، الحكمة 70.