الإمام الخميني قدس سره
إن للغضب المشتعل علاجاً علمياً وعملياً أيضاً.
أما علاجه العلمي فهو أن يتفكر الإنسان في تلك الأمور التي ذكرت، ويعدّ هذا من العلاج العملي أيضاً.
أما العلاج العملي فأهمَّه صرف النفس عن الغضب عند أول ظهوره. وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فهو يزداد شيئاً فشيئاً ويشنّد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والأيمان ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو أن يغير من وضعه. فإذا كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب، أو أن يشغل نفسه بأي أمر آخر.
على كل حال، يسهل كبح جماح الغضب في بداية ظهوره. ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان:
الأولى: هي أن يهدىء النفس ويقلل من اشتعال الغضب. والثانية: هي أنه يؤدي إلى المعالجة الجذرية للنفس. فإذا راقب الإنسان حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة تغيّرت حاله تغيراً كُلياً واتجهت نحو الاعتدال. وقد وردت الإشارة إلى بعض ذلك في كتاب (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنَّ هذا الغضب جمرة من الشيطان تُوقدُ في قلب ابن آدم وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنْ رجزَ الشيطان يذهب عنه عند ذلك".
وبإسناده، عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: "إنَّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار فأيما رجلٍ غضب على قومٍ وهو قائم فليجلس من فوره ذلك فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وأيما رجلٍ غضب على ذي رحمٍ فليدن منه فليمسه، فإن الرَّجمَ، إذا مَسَّتْ، سَكَنَتْ".
يستفاد من هذا الحديث الشريف علاجان عمليان حال ظهور الغضب. الأول عام، وهو الجلوس من القيام، أي تغيير وضعية الإنسان، ففي حديث آخر أنه إذا كان جالساً عند الغضب فليقم واقفاً.
وقد نقل عن الطرق العامة أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عندما كان يغضب، يجلس، إذا كان واقفاً، ويستلقي على قفاه إذا كان جالساً، فيسكن غضبه.
والعلاج العملي الآخر علاج خاص بالأحرام، وهو أن يمسّه فيسكن غضبه.
هذه معالجات يقوم بها الغاضب لنفسه. أما إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر الغضب، عليهم أن يعالجوه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة. ولكن إذا اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإن النصائح تنتج عكس المطلوب. ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعباً، إلاَّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه، وذلك لأن الغاضب إنما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممن يغضب عليه، أو يرى أنه، على الأقل، يتساوى معه في القوة، أما مع الذين يرى أنهم أقوى منه، فلا يُظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه وعليه فإن العلاج في حالات الانفعال الشديدة من الغضب والفورة يكون على جانب كبير من الصعوبة. نعوذ بالله منه فصل.
* في بيان أن معالجة الغضب باقتلاع جذوره
من أهم سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب العشيرة له. وهي أمور عديدة، سوف نتناول بعضاً منها مما يتناسب وهذا الكتاب.
من تلك الأسباب حبّ الذات، ويتفرّع عنه حب المال والجاه والشرف والنفوذ والتسلط وهذه كلها تتسبب في إشعال نار الغضب، إذ أن من كانت فيه هذه الأنواع من الحب، يهتم بهذه الأمور كثيراً، ويكون لها في قلبه مكان رفيع. فإذا اتفق أن واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس بأن هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع وسائر الرذائل الناجمة عن حب الذات والجاه وتمسك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادة العقل والشرع. ولكن إذا لم يكن شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حب الجاه والمقام وسائر تفرعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويَّة. إن الإنسان البسيط غير المتكلف يتحمل المنفصات ولا تنقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أما إذا اقتلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنَّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية.
ومن الأسباب الأخرى لإثارة الغضب هو أن الإنسان قد يظن الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، وذلك لجهله وقلة معرفته. فيحسب الغضب من الفضائل، ويراه بعض الجهالة فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة، هذه الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بد وأن نعرف بأن الشجاعة غير الغضب، وأن أسبابها ومبادئها وآثارها وخواصّها تختلف عن أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوة النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلباتها. أما الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلة الإيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح، مستحكمة في المرضى أكثر مما هي في الأصحاء، وفي الصغار أكثر مما هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر مما هي في الشبان. فالشجاعة عكس الغضب تماماً. ومن كانت فيه رذائل أخلاقية كان أسرع إلى الغضب ممن فيه فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع إلى الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر.
هذا من حيث مبادئ الشجاعة والغضب وما يوجبهما، وهما من حيث الآثار والنتائج مختلفان أيضاً. فالغاضب، وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله، ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده وسائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث أنه لو أعطي مرآة، لخجل من صورته التي يراها فيها.
إن بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه الأمور، بل يغضبون حتى على الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتى الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت خلاف رغباتهم. ويغضبون أحياناً على القلم والكتاب والأواني فيمزقونها أو يحطمونها. أما الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً. فأعماله لا تكون إلاَّ على رويَّة ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محله، ويحلم في محله، لا تهزّه التوافه ولا تغضبه. وإذا غضب غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف ينتقم ومتى وممن؟ وكيف يعفو ومتى وممن؟ وفي حال غضبه لا يفقد زمام نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء ولا بالأعمال القبيحة، ويزن كل أعماله بميزان العقل والشرع والعدل والإنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد ذلك.
فعلى الإنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلق الذي يتصف به الأنبياء والأولياء والمؤمنون، ويعدّ من الكمالات النفسية. والخلق الآخر الذي هو من النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخناس. إلاَّ أن حجاب الجهل وعدم المعرفة وحب الدنيا وحب الذات، يعمي عين الإنسان ويصمّ أذنه ويلقيه في المسكنة والعذاب.
وهناك أسباب أخرى ذكروها للغضب، مثل العُجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يطيل البحث الدخول في تفاصيلها، ولعل أكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والحمد لله.