الشيخ علي متيرك
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ مَعايشَ الخلقِ خمسَةٌ: الإمارَةُ والعِمارةُ والتِّجارَةُ والإجارَةُ والصَّدَقاتُ"(1).
على الرغم من الحصار الذي فُرض في الثمانينيّات على الجمهورية الإسلاميّة، والعقوبات التي ما زالت تأخذ أشكالاً ودرجات مختلفة، نهضت الجمهوريّة الإسلاميّة بقوّة وعزم وبصيرة في مجال التنميّة؛ من الزراعة إلى نظريّة الاقتصاد المقاوم، وباتت اليوم في مصافِّ الدول المتقدّمة في البحث العلميّ والإنتاج رغم حيل الأعداء.
في هذا المقال، سنطلّ على توجيهات الإمام الخمينيّ قدس سره في الزراعة؛ كنموذج لمواجهة الحصار المفروض حينها، وسنعرض فكرة الاقتصاد المقاوم للإمام الخامنئيّ دام ظله ، وأهميّته في كسر العقوبات وتنمية البلاد.
•أولاً: الإمام الخمينيّ قدس سره والحثّ على الزراعة
- أهمّيّة إحياء الزراعة(2)
إنّ من أهمّ الأمور التي عمل عليها الإمام الخمينيّ قدس سره وحثّ المجتمع على الاهتمام بها، هي الزراعة، حيث نجد في كثير من خطبه تنديداً كبيراً بالخطوات التي قام بها الشاه بدعمٍ أمريكيّ لتدمير الزراعة:
"إنّ زراعتنا منهارة الآن بالكامل، وعلى السادة أن يوصوا في مجالسهم وفي المساجد بهذا الأمر، وأن يرسلوا مبعوثيهم لتوعية الناس على أنّ الزراعة ستغنينا عن الحاجة إلى الأجانب".
وكان يرى قدس سره أنّه من الواجب على المؤثّرين والفعّالين أن يبذلوا جهداً إعلاميّاً كبيراً في حثّ الناس وتشجيعهم على الاهتمام بالزراعة:
"علينا أن نبذل جهداً إعلاميّاً كبيراً؛ أي إنّ على الأشخاص الذين يحتلّون مناصب عليا، وعلى الذين يطيعهم الناس والمتصدّين لهدايتهم، أن يحثّوهم على العودة إلى ممارسة الزراعة وإعادتها إلى حالتها الطبيعيّة إن شاء الله، بل إلى حالة أفضل".
كما نبّه الإمام قدس سره حينها، على أنّ الإصلاح لا بدّ من أن يأخذ مساره الطبيعيّ، ولا يمكن أن يحصل بين يومٍ وليلة، فينبغي التحلّي بالصبر: "لا ينبغي توقّع إصلاح هذا الأمر في يوم وليلة، فهذا أمر غير ممكن بتاتاً".
"إنّ الأوضاع قد تغيّرت بقدرة الله، وعليكم الآن أن تصبروا أعواماً عدّة أخرى حتّى يتمّ إصلاح الأمور".
- استفتاء حول سُبل حلّ الأزمة الاقتصاديّة
في سؤال وُجّه إلى الإمام الخمينيّ قدس سره حول السبيل لحلّ الأزمة، بالالتفات إلى الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ الإيرانيّ، والأخذ بالاعتبار نفاد الاحتياطيّ النفطيّ في المستقبل وتبعيّة البلد في مجال الموادّ الغذائيّة، أجاب الإمام قدس سره بحلول عدّة، جاعلاً الاعتماد على الزراعة أحد هذه الحلول، فقال قدس سره:
"نحن، بإقامة الحكومة الوطنيّة الإسلاميّة وإحلال الوطنيّين المؤمنين محلّ الخونة المبذّرين، لدينا حلول معقولة للتخلّص من الأزمة، منها:
أوّلاً: التخلّص من ناهبي بيت المال، وفي مقدّمتهم الشاه الذي ألحق الضرر بالاقتصاد الإيرانيّ بإصدار صكوك بملايين الدولارات للسفراء والمتنفِّذين الأمريكيّين من بيت المال إبقاءً على عرشه.
ثانياً: وضع حدّ لإجحاف كبار المسؤولين وخيانتهم، من وزراء ومعاونين ومديرين ورؤساء الدوائر المهمّة.
ثالثاً: إلغاء الكثير من الدوائر الحكوميّة التي لا جدوى منها، سوى تأخير معاملات الناس وفرض نفقات إضافيّة على بيت المال.
رابعاً: توظيف سليم للطاقات الزراعيّة، تحقيقاً لزراعة مجدية، تمّ القضاء عليها خلال سنوات من ثورة الشاه الأمريكيّة، وأسقطوا إيران من موقعها الزراعيّ، وحوّلوها إلى سوق للأجانب"(3).
•ثانياً: ما هي فكرة الاقتصاد المقاوم؟
الاقتصاد المقاوم، هو سياسة اقتصاديّة، اتّبعتها الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران لمواجهة أنواع الحظر والحصار والضغوط الاقتصاديّة، تعتمد بالدرجة الأولى على دعمِ مختلف الوحدات الإنتاجيّة، وتفضيل السلع والمنتجات المحلّيّة على السلع الأجنبيّة في القطاعات كلّها، والحدّ من اعتماد الموازنة العامّة على الإيرادات النفطيّة. ويهدف إلى تقليل الأضرار والخسائر في المعركة الدائمة والمستمرّة مع الأعداء. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله : "إنّ الاقتصاد المقاوم يعني أن يكون لدينا اقتصاد يحفظ مسيرة النموّ الاقتصاديّ في البلد، وكذلك تتناقص آفاته؛ أي أن يكون الوضع الاقتصاديّ للبلد والنظام الاقتصاديّ بحيث تقلّ أضراره وخسائره مقابل حِيل الأعداء التي ستبقى دوماً وبأشكال مختلفة، وفي الوقت نفسه يكون اضطرابه أقلّ"(4).
يرسم الإمام الخامنئيّ دام ظله ماهيّة الاقتصاد المقاوم من خلال ستّة أسس تشكّل الصورة الصحيحة والسليمة لهذا الاقتصاد، منطلقاً في تبيانها من السؤال الأوّليّ: ما هو الاقتصاد المقاوم؟
"أوّلاً: هو نموذج علميّ متناسب مع حاجات بلدنا.
ثانياً: هو اقتصاد ذاتيّ الإنتاج؛ أي إنّ الاقتصاد ينبع من داخل إمكانات وطاقات بلادنا وشعبنا... ولكن في الوقت نفسه ليس اقتصاداً منطوياً على الذات، هو اقتصادٌ داخليّ الإنتاج خارجيّ التوجّه، يرتبط ويتفاعل مع اقتصادات العالم، ويتعامل معها بقوّة.
ثالثاً: هو شعبيّ مرتكِز على الناس؛ أي إنّه ليس اقتصاداً رسميّاً حكوميّاً، إنّه اقتصاد شعبيّ، يتحقّق بإرادة الشعب ورأسمال (تمويل) الناس ومشاركتهم، وعدم كونه حكوميّاً رسميّاً لا يعني أنّ الحكومة لا تتحمّل مسؤوليّة تجاهه.
رابعاً: هو اقتصاد يستفيد من التقدّم العلميّ، ويعتمد على التطوّر العلميّ... ولكن هذا لا يعني أبداً، أنّ هذا الاقتصاد محصور بالعلماء... كلّا، فكلّ التجارب والمهارات، تجارب أصحاب الصناعات والعمّال ذوي التجارب والمهارات المتنوّعة، يمكنها أن تؤثّر وتساهم بشكل كبير في هذا الاقتصاد.
خامساً: هذا الاقتصاد يدور حول محور العدالة؛ أي إنّه لا يكتفي بمؤشّرات الاقتصاد الرأسماليّ من قبيل النموّ الوطنيّ أو الناتج الإجماليّ (القوميّ)... والحال أنّه في بلدٍ ما، على الرغم من أنّ الناتج الإجماليّ قد ارتفع كثيراً، فإنّ فيه أناساً يموتون جوعاً! هذا لا نقبله ولا نؤمن به.
سادساً: إنّ الاقتصاد المقاوم دائم ومستمرّ، فهو بمعنى التقوية والتثبيت والتمتين لأسس الاقتصاد"(5).
- ما هي شروط تحقيق الاقتصاد المقاوم؟
بعد السؤال الأوّل حول الماهيّة، يأتي سؤال آخر، يجيب عنه الإمام الخامنئيّ دام ظله ، حول المقتضيات والأعمال التي يجب إنجازها لتحقيق هذا العمل الكبير، فيتكلّم عن أربع مسائل:
"أوّلاً: دعم الإنتاج الوطنيّ. فهو الأساس والحلقة الأصليّة لتقدّم الاقتصاد.
ثانياً: على أصحاب رؤوس الأموال والقوى العاملة (المنتجة)، أن تولي أهمّيّة للإنتاج الوطنيّ أيضاً، بأيّ معنًى؟ بمعنى زيادة الإنتاجيّة والاستفادة من الإمكانات الموجودة بالحدّ الأقصى والأمثل، حين يعمل العامل، ينفّذ عمله بكلّ دقّة، (رَحِمَ اللهُ امرَءاً عَمِلَ عَمَلاً فَأَتقَنَه). هذا هو معنى المنفعة والاستفادة.
ثالثاً: أن يتّجه أصحاب رؤوس الأموال في البلد إلى الأعمال الإنتاجيّة كأولويّة على غيرها من الأنشطة.
رابعاً: الترويج للإنتاج الوطنيّ... وهو عبارة عن استهلاك الإنتاج الداخليّ"(6).
- ما هي دعائم الاقتصاد المقاوم؟
يلفت الإمام الخامنئيّ دام ظله إلى بعض الأمور المهمّة جدّاً في تدعيم الاقتصاد واستمراريّته، نذكر منها:
1- ترشيد الاستهلاك: "إنّ قضيّة إدارة الاستهلاك تُعدّ من أركان الاقتصاد المقاوم؛ أي الاستهلاك المتوازن والبعيد عن الإسراف والتبذير"(7).
2- خطط بعيدة المدى: "إنّ التحرّك وفق برنامج هو من الأعمال الأساسيّة، فالقرارات التي تكون بنت اللحظة وتتبدّل هي من الضربات التي توجّه صفعة للاقتصاد المقاوم وللمقاومة الشعبيّة"(8).
3- الوحدة والتعاضد بين أبناء الشعب: "إنّ الشعب في بلدنا -ولحسن الحظّ- متّحدٌ، وهذا ناتجٌ مهمّ جدّاً يجب صيانته، وأن لا نسمح بزواله"(9).
- بناء المجتمع والاقتصاد المقاوم
يرى الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ الهدف الأساس للإسلام هو بناء المجتمع المتطوّر العادل المعنويّ، والاقتصاد المقاوم هو ركنٌ أساس وهدفٌ يخدم الهدف الأسمى والأساس: "الإسلام يسعى لتشكيل مجتمع متطوّر، وإنّ قسماً مهمّاً من أحكام الإسلام تنادي بهذا الأمر... في النظام الاسلاميّ، يُدار المجتمع بعدل، يكون المجتمع في نفسه مجتمعاً عادلاً، مجتمعاً متطوّراً، ومجتمعاً معنويّاً أيضاً. المعنويّة التي توجب على الإنسان أن لا يعدّ الأهداف الدنيّة والمادّيّة وشهوات الحياة اليوميّة، أهدافاً عالية له، بل يضع لنفسه أهدافاً أعلى، وأرفع، تحافظ على ارتباط عموم أفراد الإنسان، وارتباط القلوب بالله تعالى. هذا هو المجتمع الذي ينظر إليه الإسلام"(10).
"على الرغم من أنّ الاقتصاد المقاوم نفسه يعدّ أمراً مهمّاً، إلّا أنّه في الواقع، يُعرّف تبعاً لذلك الهدف السابق. السلامة في المجتمع، والصناعة الفُضلى، والزراعة الفُضلى، والتجارة الرابحة، والعلم المتطوّر، فهذه جميعها من الأهداف"(11).
- الاقتصاد المقاوم سبيل العلاج
لا يمكن علاج الأطماع والتعدّيات إلّا من خلال الاعتماد على الذات والمقدّرات. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله : "إنّ سبيل علاج هذا العداء (عداء الأمريكيّين) يكمن في أمرٍ واحد فقط، وهو الاعتماد على الاقتدار الوطنيّ والقوّة الداخليّة الوطنيّة وتمتين البُنى الذاتيّة الداخليّة للبلاد أكثر فأكثر. مهما فعلنا وعملنا في هذا المجال فإنّه يبقى قليلاً وليس كافياً"(12).
ختاماً، كانت تلك ومضة من تاريخٍ مشرقٍ وحاضرٍ واعد، فهلّا استفدنا منها كتجربة رائدة يمكن تعميمها على سائر الدول والمجتمعات التي تريد السيادة والاستقلال والنهوض الاقتصاديّ الحرّ!
1.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج19، ص35.
2.صحيفة الإمام قدس سره، ج6، ص201.
3.(م.ن)، ج3، ص400.
4.من كلمةٍ له دام ظله في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء الحكومة، بتاريخ 23/08/2012م.
5.من كلمةٍ له دام ظله في جمعٍ من المسؤولين وجموع من أبناء الشعب، بتاريخ 21/03/2014م.
6.(م.ن).
7.من كلمةٍ له دام ظله في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام، بتاريخ 24/07/2012.
8.(م.ن).
9.(م.ن).
10.من كلمةٍ له دام ظله في لقاء الجامعيّين، بتاريخ 28/07/2013م.
11.(م.ن).
12.من كلمةٍ له دام ظله في لقاء أهالي آذربيجان، بتاريخ 17/02/2014م.