المجاهد الجريح هادي كريّم (عليّ الهادي)
حنان الموسويّ
حمل قاذف الـB7 وأسرع نحو سطح المبنى، بعد أن أخبره أحد المجاهدين أنّ آليّةً للمسلّحين تجوب الأنحاء. صارت الآليّة في مرمى نيرانه، بينما كان يردّد الآية: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ (الأنفال: 17)، عاجله قنّاص بطلقة M16 في رأسه، اخترقت الخوذة وخرجت من خدّه الأيمن، فهوى على الأرض.
•"يجب أن ننتصر"
كان رفيقه "أبو تراب" إلى جانبه حين إصابته، فتذكّر كلامه قبل وقتٍ قصير حين استشهد قائد المجموعة الثانية: "هو استشهد، فهنيئاً له الشهادة، لكن هناك واجب علينا تأديته، ويجب أن ننتصر". حاول "أبو تراب" حمله على ظهره ولكنّه عجز، لذلك استدعى المسعفين. وما هي إلّا دقائق حتّى شهق هادي شهقة، عاد معها إلى وعيه لثوانٍ، رفع إشارة النصر بيده، ثمّ غاب عن الدنيا من جديد. حمله مسعفٌ وجدّ الركض به تحت القصف ليوصله إلى سيّارة الإسعاف.
•استعدادٌ وتأهّب
كانت المهمّة تقتضي ردع تقدّم المسلّحين والحفاظ على المنطقة. وعلى الرغم من الهجمات كلّها التي نفّذها الدواعش، لكنّ اليوم الأخير كان صعباً، وبمثابة الضربة القاضية لهم. كنتُ ورفاقي نقوم بالتصدّي لأيّ عدوان، بينما تتجهّز باقي المجموعات، وكلٌّ ينفّذ مهامه بحسب اختصاصه، والهدف الأقدس المشترك بين الجميع هو عدم الانسحاب من المبنى الذي يتواجدون فيه تحت أيّ ظرف؛ لأنّ موقعه في منتصف الساحة وحيداً أعطاه مكانة استراتيجيّة كما المنطقة تماماً. كان السيناريو المرسوم قد وصل من القيادة هناك. الخطوات والمراحل كلّها كانت متوقّعة سوى ساعة الهجوم، لذلك كان الحذر واجباً وعلينا التأهّب بشكل أوسع.
•في مواجهة المفخّخات
تمّ إيقاظنا عند الساعة الثالثة فجراً، وقد نُفّذ الهجوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً. كانت خطّة الدواعش تقتضي أن تدخل آليّة BM صلى الله عليه وآله وسلم مفخّخة، ويتمّ تفجيرها عن بُعد أو عبر انتحاريّ، فيتصاعد الغبار ويستغلّ المسلّحون ذلك للتسلّل وتنفيذ الهجوم، وهذا ما حدث فعلاً. كان ضغط الانفجار كبيراً. بعد دقيقتين، لاحت المفخّخة الثانية وانفجرت أيضاً. مقدار الدمار كان هائلاً! وبما أنّي قائد مجموعة، ومدى الرؤية كان معدوماً، وجب عليّ ارتجال طريقة لمعرفة ما يجري خارج المبنى، خاصّةً بعد أن تضرّر جزء كبير من مقدّمته، فارتأيت أن أحمل قاذف B7، وهو سلاح يستخدم ضدّ الدروع، وهو الوحيد المتوافر حينها، وتوجّهت نحو سطح المبنى مع أحد المجاهدين، لكشف المداخل المحيطة بالمبنى.
كانت المفخّخة الثالثة تحوم في الأرجاء. استهدفها "أبو تراب" الذي كان برفقتي. انتظرنا انفجارها لكن دون جدوى، فقد انزلقت لانحراف في زاوية الإطلاق فلم تنفجر. مهمّتها كانت مختلفة عن المفخّختين اللتين سبقتاها؛ فقد أتاحت للمسلّحين القيام بإنزال خلف المبنى للالتفاف حوله واستهداف المجاهدين!
•الضربة القاضية
وابل النيران كان يصبُّ فوق الرؤوس كالمطر من أنواع الأسلحة كافّة، و"الحكي مش متْل الشوف"، لكنَّ عزيمة المجاهدين لامست السماء، الصمود تجلّى في سواعدهم، ما زاد من الإصرار في النفوس على الرغم من الخطر المحدق من كلِّ جانب.
عند الساعة الثانية عشرة، أجريتُ اتّصالاً هاتفيّاً بوالدي لطمأنته. بطبيعة الحال، كان الأهل يعرفون بأمر الهجوم القائم عبر وسائل الإعلام والأخبار، أمّا إصابتي فكانت بعد ذلك بساعة. بعد فشل خطّة المسلّحين وهجومهم، قاموا بهجوم معاكس لسحب عناصرهم المختبئين في المباني الموجودة خلف المبنى الذي نسيطر عليه، لكنّ المجاهدين قادوا زمام الأمور ومنعوهم من التقدّم أو الاشتباك أو الهجوم. وعند محاولتهم الفرار ليلاً عبر كرم الزيتون القريب، التحم المقاومون معهم وقضوا عليهم جميعاً.
•إصابة بالغة
من ألطاف الله وعنايته أنّني لا أذكر شيئاً عن لحظة إصابتي. أحاول جاهداً تذكّر شيء بسيط منها ولكن عبثاً، حتّى ما قبل الإصابة بربع ساعة، أنا عاجز عن تذكّره.
تلك الرصاصة ابتعدت 2 ملم فقط عن الشريان الأساسيّ المغذّي للدماغ، فأصابت كأس الدماغ، وتسبّبت بنزيف حادّ، فقطعت أوصال الحياة في رأسي، وفي خدّي وأذني، وما استحوذ عليه وجهي من الناحية اليمنى؛ لقد أصيبت الأعضاء كلّها بشلل! وعلى الرغم من أنّ عيني التي لا ينضب دمعها خضعت لجراحة إلّا أنّها لا تزال تسبّب لي الألم حتّى الآن. فقدتُ الإحساس بوجنتيّ وأنفي، حتّى مذاق الطعام فقدته. مركز الإحساس معطّل، وكلّ العروق والأوتار في خدي الأيمن قطعت. انفجر كلّ ما في أذني إلّا هيكلها الخارجيّ حافظ على جماله، ولا مجال لأسمع بها مجدّداً. أمّا الفكّ فقد كُسر، وبعد الجراحة تمّ تثبيته دون تقويمه نظراً إلى خطورة الوضع حينها، لذلك قصر الفم 2 سنتم عن مكانه الطبيعيّ في الوجه وانحرف، حتّى أنّي أواجه صعوبة في فتح فمي كاملاً. وأكثر ما سبّب لي الأذى إصابة مركز التوازن في الجانب الأيمن، لذلك واجهت صعوبة في الوقوف والسير وحيداً، فاحتجت إلى المساعدة لفترةٍ من الزمن. وعلى الرغم من أنّ وضعي الجسديّ تحسّن، إلّا أنّ أثر الجرح باقٍ لا يزول.
•إصابة الأسد لا تمنعه من الزئير
الإنسان المجاهد المعتاد على القتال، يبقى حبّ الجهاد يسري في دمه، مهما تألّم وتأذّى وجُرح أو خسر بعض أعضائه، إلّا أنّ عزيمته لا تنثني ولا تضعف. إصراره على الاستمرار يتضاعف، فالأسد يبقى أسداً وإن جُرِح، ولا يؤثّر الجرح على قوّته وعزيمته وإصراره.
هكذا هو حالي فعلاً، إذ لا يأس في نفسي مهما حصل. تبقى روحي هناك في الساحات، وعند أيّ مواجهة لا أدّخر جهداً محاولاً أن أكون مع المجاهدين على الجبهات، فإن احتاجني الإخوة، أنا موجودٌ دائماً. كما أنّي قمتُ منذ مدّة بتدريب مجموعة شبّان كنت أتابعهم. لا وصف للإحساس الذي شعرت به حينها. وأبقى دائماً حبيس ذكرياتٍ جمعتني مع رفاقي الشهداء، أتمنّى لو أعيشها من جديدٍ ولو للحظات.
حياتي أكملها كما أتمنّى؛ أتممتُ دراستي الجامعيّة بعد أن توقّفت مدّة شهرين ونيّفٍ حين إصابتي. تواصلتُ مع إدارة الجامعة كي لا أُحرم من الامتحانات، وفعلاً تجاوبت معي بقدرٍ معيّن، وأنا الآن حائز إجازة جامعيّة باختصاص إدارة الأعمال. ساعدني أحد أصدقائي على دراسة ما فاتني من دروس، وقد أُعجب بتفوّقي في المواد التي ساعدني بها، ولفته إصراري على المتابعة على الرغم من الجراح.
ما تعب طموحي أبداً، فما زلت أتابع دراساتي العليا "ماجستير" في اختصاص الموارد البشريّة، وأروم دراسة علم النفس والتخصّص به لاحقاً. عملتُ محاسباً في إحدى الشركات، وحاليّاً أنشأتُ عملي الخاصّ "أونلاين" عبر وسائل التواصل، أبيع بعض المنتجات المتعلّقة بالهواتف الذكيّة، وبعض الهدايا والملابس وغيرها.
•الإرادة طريق النجاح
علاجي مستمرٌّ إلى أن يشاء الله. فقدان الأذن الوسطى سبّب لي ضغطاً وعدم توازن في الفترة الأولى، وقد استطاع جسمي أن يستعيد التوازن عبر الجانب الأيسر، مع الكثير من التدريب. واستعدت قدرتي على السير وحيداً، وكذلك الركض والسباحة، حتّى أنّي اشتركتُ في نادٍ رياضيّ، ونجحت في هذا التحدّي أيضاً. فحين تتأصّل الإرادة في نفس الإنسان، يجد دائماً سبيلاً للحلّ.
المساعد الأوّل للفرد هو نفسه؛ إن قرّر شيئاً قام به، ولكن إن تملّكه اليأس مشى إلى حتفه، وأنا لم تكسرني جراحي. وكم تمنّيتُ أن أسرق من سفر الحلم السلامة، وأعود للدفاع عن العقيلة زينب عليها السلام، ووالداي يشجّعانني على ذلك.
•خدمة الناس عبادة
من أولويّات الحياة مساعدة الناس وخدمتهم، مهما كان السبيل إليها صعباً. وأن يكون المرء سبباً في سعادة الناس لهو توفيق من الله، وفيضٌ عظيمٌ منه.
أساعد رفاقي من الجرحى، خاصّةً في الشقّ التعليميّ، وحتّى رفاقي في الجامعة، بعضهم ينتظرون أن ألخّص الدروس كي يستعينوا بها، وذلك أنّ الله وهبني سرعة بديهة وقدرة على الحفظ بشكلٍ سريع. تلك الغبطة تملأ جوارحي حين أحقّق لإخواني أو لأهلي ورفاقي ما يتمنّون.
كلّ ما تعرّضتُ له كان بمثابة تحدٍّ لي، وطالما أنّي بقيتُ على قيد الحياة بعد إصابتي، ذاك يعني أنّ الله أعطاني فرصةً أخرى لأثبت نفسي وأؤدّي واجبي ورسالتي، وسأفيد مجتمعي بكلّ ما خوّلني ربّي من قدرة.
الاسم: هادي محمّد كريّم.
الاسم الجهادي: علي الهادي.
مكان الإصابة وتاريخها: حلب (ملحمة حلب الكبرى) 3/11/2016م.
نوع الإصابة: طلقة M16 في الرأس.