مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإمام شرف الدين ومؤتمر وادي الحجير

د. محمد أمين كَوْراني (*)


مع انتهاء الحرب العالميّة الأولى تنفّس الناس، في المناطق الشامية عامّة وجبل عامل خاصّة، الصعداء واستبشروا خيراً بزوال الكابوس التركيّ الذي جثم على صدر الأمّة أكثر من أربعمائة عام يحكمها باسم الإسلام والخلافة. وكان أبناء جبل عامل يسترشدون بتوجيهات علمائهم ويطالبون باستقلال منطقتهم.

•مفاوضات سريّة وقيام الثورة العربيّة
بينما كان عدد من الشخصيّات العربيّة يسعى إلى التخلّص من حُكم الأتراك، منهم الشريف حسين بن علي أمير مكّة المكرّمة الذي "سعى للحصول على قدر من الاستقلال بحسب ما كان لديه من إمكانات"(1)، كانت الرسائل تتداول بين مندوبي بريطانيا وفرنسا وروسيا، الأمر الذي أسفر عن عقد اتفاقيّة سريّة بين هذه الدول الثلاث العظمى آنذاك، اتفاقيّة "سايكس-بيكو"(2). وبموجب هذه الاتفاقيّة مُنحت فرنسا حقّ المراقبة على لبنان وسوريا باستثناء (جنوبي سوريا)؛ أي فلسطين... حيث ستنشأ (إدارة دوليّة)(3)، وكانت المفاوضات السريّة بين الشريف حسين والإنكليز قد أسفرت عن قيام الثورة العربيّة... التي بدأت في 10 حزيران 1916م بتمويل ومساعدة إنكليزيّة(4).

•إخلال الحلفاء بالوعد والاحتلال
وفي أثناء هذه الثورة، برزت شخصيّة شابّ بريطانيّ عالم بالآثار اسمه (لورنس)... كان يعمل ضابطاً في دائرة الاستخبارات البريطانيّة في القاهرة.. ثمّ التحق بجيش القبائل تحت إمرة فيصل، وصار يُعرف بـ"لورنس العرب"(5). ومن طريف ما ذكره لورنس في كتابه (أعمدة الحكمة السّبعة): "كنت أرى أنّنا إذا انتصرنا، فإنّ وعودنا للعرب ستبقى حبراً على ورق... وجازفت بالتضليل اقتناعاً منّي بأنّ مساعدة العرب لنا كانت ضروريّة لنصل إلى نصر سريع وقليل التكاليف على الجبهة الشرقية، وأنّ النصر مع الإخلال بالوعد أفضل من الهزيمة"(6). ولم يكن العرب على علم بوجود معاهدات سريّة مطلقاً، إلّا بعد الثورة البلشفيّة في روسيا عام 1917م. ورغم ذلك، فإنّ بريطانيا أعطت التطمينات للشريف حسين، وكانت سنة 1918م سنة انتصارات الحلفاء، وانتهت بالقضاء على الدولة العثمانيّة واحتلال دمشق ودخول بيروت.

•فرْض الانتداب كَشَف التضليل
تسارعت الأحداث وخاف الوطنيّون في سوريا من نتائج مؤتمر الصلح في باريس عام 1919م، وارتابوا من الوفود التي راحت تطالب بانفصال لبنان عن سوريا، ومن إحباط فيصل في كلّ من لندن وباريس. وقد استُدعي على الفور ليُتوّج ملكاً على سوريا في 8 آذار عام 1920م، فما كان من الحلفاء إلّا أن ردّوا على هذا الإعلان بفرض الانتداب الفرنسيّ على سوريا ولبنان، والانتداب الإنكليزيّ على العراق، وفلسطين والأردن، وذلك في مؤتمر سان-ريمو في 5 أيار 1920م.

بعد هزيمة الأتراك في 30/11/1918م، كانت المدن السوريّة واللبنانيّة قد أَنشأت حكومات مؤقّتة تحفظ الأمن باسم الشريف حسين، وقد أكّد ذلك السيّد عبد الحسين شرف الدين في كتابه "بغية الراغبين"(7).

كان السيّد شرف الدين ممّن أنشأ حكومة في صور للإمساك بالأمن، ريثما يتسلَّم الشريف حسين زمام الحُكم. ولم يقتصر جهاد السيّد شرف الدين على الجانب العلميّ والفكريّ فقط، بل ضمّ إليه نضاله ضدّ الاستعمار.. ولاقى في هذا الطريق ما لاقى. قال المحقّق الخبير بحياة السيّد شرف الدين، الشيخ مرتضى آل ياسين: "ولعلّ المحن التي كابدها الإمام الجليل في سبيل سعادة قومه، لم يكابد نارها إلّا أفذاذ من زعماء العرب وقادتهم ممّن أبلوا بلاءه وعانوا عناءه"(8).

"وكان استقبال أهالي جبل عامل للاحتلال الفرنسيّ استقبالاً صارخاً محتجّاً يواجهها بالرفض والميل عنها ميلاً لا هوادة فيه ولا لين"(9)‏. ‏

•السيّد شرف الدين قطب رحى الثورة
أصبح السيّد شرف الدين قطب رحى الثورة في جبل عامل، ممّا دفع الفرنسيين وعملاءهم إلى الكيد له والتآمر عليه، فاحتكم إلى الشعب وطرح مصير البلاد على أهلها في رفض الانتداب وإلحاق جبل عامل بسوريا..

ومع تأزّم الوضع بين السوريّين والفرنسيّين، توجّه مبعوثان من قبل الملك فيصل إلى كامل الأسعد زعيم البلاد آنذاك، وقالا له: "إنّ الثورة ‏لا بدّ منها، ونحن نعدُّ لها، ونريد أن نعرف: هل جبل عامل معنا أم لا؟"(10). ولمّا لم يكن بمقدور الأسعد أن يبتّ بالأمر منفرداً، ألقى به إلى قادة الرأي، وفي طليعتهم السيّد شرف الدين، فاتّفق الرّجلان على عقد مؤتمر يضمّ علماء البلاد وزعماءها وأدباءها وأهل الرأي فيها وثوّارها، وكان المؤتمر في وادي الحجير، لتوسّطه البلاد العامليّة وبُعده عن أعين الفرنسيّين، وهو حصين بجباله وهضابه. كان الأمر شاقاً من طرفيه، فهم يتوجّسون خيفة من فرنسا ولا طاقة لهم بمجابهتها، وهذه جبهة وطنيّة تدعوهم إلى الجهاد، وهذا ما لا يمكن الامتناع عنه، أضف إلى هذه الحيرة "أنّ سياسة البلاد كانت تدعوهم للاجتماع وللنظر في تقرير مصيرهم على نحو تطمئنّ إليه الجماعة القلقة"(11).

•مؤتمر وادي الحجير
التأم المؤتمر في اليوم الرابع والعشرين من شهر نيسان عام 1920م، ولم تبقَ قرية ولا مدينة ولا مزرعة إلّا وقدِم منها مَن يمثّلها في المؤتمر. وقد أجمعت كلّ المصادر المكتوبة والمرويّة على أنّ السيّد شرف الدين كان النجم المتألّق في هذا المؤتمر.

كما كان لحضور الثوّار في المؤتمر تأثير كبير، فهم المعنيّون بحراسته وهم قطب الرَّحى في العمل العسكري ضدّ الفرنسيّين. "ووصل زعيم الثوار صادق الحمزة يحيط به نحو الخمسين من رجاله وكلّهم في عدّتهم الحربية وانتحوا جانبَي الوادي وناحية من الناس"(12). ثم راح السيّد شرف الدين يبيّن بعض الحوادث التي أثارها الفرنسيّون عبر عملائهم، منبّهاً إلى خطورة الانجرار وراء هذه الحوادث رغم بشاعتها.

بعد المؤتمر، تركّز نشاط الثائرين على مواقع الحكومة الفرنسية ومن ساندها.. "فاضطربت البلاد العامليّة، وكُبّلت يد فرنسا، ولم تكن سلطتها تمتدّ متراً واحداً وراء المدن الساحليّة، والبلاد مضطربة ثائرة لا تقرّ معاملة، ولا ترجع إلى الدّوائر الرّسمية في‏ أمر من أمورها"(13). كانت قرارات مؤتمر سان-ريمو قد أعطت الضوء الأخضر للجنرال غورو بأن يتابع تصفية الثورة على الاحتلال تحت ستار دوليّ ومباركة إنكليزيّة.

•مقاومة جبل عامل في مواجهة الاحتلال
تلاحقت الأحداث متسارعة، فعزمت فرنسا على تجهيز حملة عسكريّة كبيرة بقيادة الكولونيل نيجر لتصفية المقاومة في جبل عامل ولتحقّق مكسباً سياسيّاً في عصبة الأمم بانتدابها على كلّ من سوريا ولبنان. "هذه الأمور دفعت الثائرين للاتّكال على قواهم الذاتية، ووزّعوا رجالهم بشكل يستطيعون به إرباك الحملة الفرنسية"(14). وعنُف هجوم الثوار على الحاميات الفرنسية وعلى القوافل التي تزوّدها بالمؤن والذخائر، وتغلبوا على العساكر الفرنسيّة في كثير من المواقع والمواجهات، وكانت أعنفها معركة "مصيلح" بقيادة أدهم خنجر، ومعركة "وادي الحريق" بقيادة صادق حمزة الفاعور(15).

•إجهاض الثورة بإعدام الثوّار
وهاجمت الحملة دار السيّد شرف الدين ‏في صور، "وأعملتْ فيه سلباً ونهباً، وما فيه من الأثاث. ولم تسلَم مكتبته النفيسة بنفائسها، ومؤلّفات صاحبها القيّمة من ذلك"(16). وحكم على العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين ‏وعلى الأحرار من زعماء البلاد بالإعدام، ولكن السيّد نجا بأعجوبة من براثن الفرنسيين، وغادر البلاد إلى فلسطين، ومنها إلى مصر. أما الثوّار فقد استماتوا في الدفاع والمواجهات متراجعين أمام الحملة وثقلها حتّى سهل الحولة في فلسطين ومرتفعات الجولان بعد أن انضمّ إليهم كثير من ثوّار عرب سهل الحولة والجولان ليتابعوا الثورة من بعدها في الجنوب السوريّ إلى حين وقوع أدهم خنجر في الأسر عام 1923م وإعدامه في محلّة الروشة في بيروت، واستشهاد صادق حمزة الفاعور في الأردن عام 1926م في ظروف غامضة. ولو قُدّر لهذه الثورة أن تنجح لغيّرت مجرى تاريخ منطقة بلاد الشام.


(*) باحث في التاريخ.
1.الصراع الدولي في الشرق الأوسط، زين نور الدين زين، ص61.
2.(م.ن)، ص69-70.‏
3.(م.ن)، ص71.
4.(م.ن).
5.(م.ن).
6.المخفي من حياة لورنس العرب، فيليب ناتالي وكولون سمبسون، ترجمة إيلي لاوند وإبراهيم العابد، ص32.
7.يقول: "وأنشأنا في صور يومئذ حكومة على هذا الغرار تحتفظ بالزمام لتلقيه بعدئذ إلى الأمير فيصل، لكن الإنكليز أبطلت هذا التّدبير الذي رجوناه لمستقبل عربي مستقل". بغية الراغبين، المخطوط، السيد عبد الحسين شرف الدين، ص62.
8.الإمام شرف الدين باحثاً ومجاهداً وداعياً للإصلاح والوفاق، آية الله جعفر السبحاني، ص71.
9.بغية الراغبين، (م.س)، ص62.
10.سراب الاستقلال في بلاد الشام، حسن الأمين، ص210.
11.بغية الراغبين، (م.س)، ص64.
12.مجلة العروبة، 22 كانون الأول 1934م، العدد 20، السنة الأولى، ص26.‏
13.بغية الراغبين، (م.س)، ص66.‏
14.جريدة السفير اللبنانية، 31/7/1990م.
15.(م.ن).
16.العرفان (مذكرات الشيخ أحمد رضا)، م34، ج2، ص199-200.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع