الشيخ علي متيرك
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).
كلّما ازداد وعي الفرد ومعرفته ومكانته، كانت المسؤوليّة عليه أكبر وأعظم؛ لما له من تأثيرٍ في المحيط والبيئة. فكيف إذا كان الأمر يرتبط بأحداث ومجريات لها تأثيراتها على صعيد الأمّة ككلّ؟
لا شكّ هنا في ضرورة توخّي الدقّة في تشخيص التكليف وامتثاله؛ لأنّ التبعات ستلقي بكاهلها على الجميع، بل على الآتي من الأجيال أيضاً. من هذا المنطلق، يتحدّث الإمام الخامنئيّ دام ظله عن فئتين في المجتمع: الخواصّ والعوامّ، مسلّطاً الضوء على المصداق الألمع لهما في نهضة الإمام الحسين عليه السلام، مبرزاً دور الخواصّ واختبارات النخبة.
•الخواصّ والعوامّ
للمجتمع تقسيمات تختلف باختلاف اللّحاظ والحيثيّة، فإذا نظرنا من زاوية التأثير والقدرة على الارتقاء بالمجتمع في سلّم الكمال، نجد فئةً خاصّة لها آراؤها وتأثيراتها، وأخرى تتأثّر وتنقاد على غير هدي ووعي، بل يخوضون في ما خاض فيه الناس والجماعة، وإلى ذلك يشير الإمام الخامنئيّ دام ظله قائلاً: "إذا نظرتم إلى المجتمع البشريّ؛ أيّ مجتمع كان، وفي أيّة مدينة أو بلد، تجدون الناس فيه يُقسمون -من وجهة نظر معيّنة- إلى فئتين:
فئة تسير عن فكر وفهم ووعي وإرادة، وهي تعرف طريقها وتسلكه، ولا يهمّنا في هذا المقام إذا كانت هذه الفئة على صواب في مسلكها، أو على خطأ، وهذه الفئة يمكن تسميتها بالخواصّ.
وفئة أُخرى لا تنظر لترى ما هو الطريق الصحيح، وما هو الموقف الصائب، ولا يهمّها أن تفهم وتحلّل وتقيس وتدرك، بل تتّبع الجوّ السائد والهوى العامّ، ولنُسَمِّ هذه الفئة بالعوامّ...
من هم الخواصّ؟ هل هم طبقة خاصّة؟ كلّا؛ لأنّ هذه الفئة التي نسمّيها بالخواصّ تضمّ بين أفرادها أشخاصاً متعلّمين وغير متعلّمين، فقد يكون أحياناً بين الخواصّ شخص غير متعلّم، لكنّه يفهم ما ينبغي له فعله، وهو يعمل وفقاً لتخطيط وإرادة"(1).
•دور الخواصّ والنخبة في المجتمع
إنّ الخواصّ والنخب هم شعلة المجتمع التي ينبغي لها أن تضيء السبل والطرق الصحيحة، وتبيّن منهج الحقّ وتدعو إليه، فمكانتهم الاجتماعيّة تحتّم عليهم إرشاد العوامّ وتوجيههم؛ لذا يرى الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ على النخب والخواصّ إيجاد الوعي والبصيرة في المجتمع ككلّ، فضلاً عن أنفسهم.
"البصيرة مهمّة، ودور النخبة والخواصّ هو أن يُوجِدوا هذه البصيرة، لا في أنفسهم فقط، وإنّما لدى الآخرين أيضاً... ثمّة أشخاص بوسعهم إقناع الآخرين بالأدلّة وتنوير أذهانهم وإقناعهم، فالإمام الحسين عليه السلام استخدم هذه الوسائل في بداية نهضته... لقد كان الإمام الحسين عليه السلام صاحب بيان وتوضيح في ساحة كربلاء نفسها، فكان عليه السلام يقف ويتحدّث، مع أنّها كانت ساحة حرب وقتال والمتوقّع هناك إنّما هو إراقة الدماء، لكنّه كان ينتهز أيّة فرصة للتحدّث مع الطرف المقابل لعلّه يتمكّن من إيقاظهم. طبعاً، لقد استيقظ بعض الغافلين، أمّا الذين كانوا يتظاهرون بالنوم فقد كان إيقاظهم صعباً، بل أحياناً كان من المستحيل إيقاظهم"(2).
•من خواصّ المسلمين إبان النهضة الحسينيّة
- من خواصّ أهل الحقّ:
1- عبد الله بن العبّاس: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان محبّاً لعليّ عليه السلام وتلميذه(3). حاول جهده في ثني الإمام الحسين عليه السلام عن التوجّه إلى العراق، فاقترح أن يتوجّه عليه السلام إليه بعد قتلهم الأميرَ الأمويّ، حيث قال: "إن كان قد دعَوك بعدما قتلوا أميرهم ونفَوا عدوّهم وضبطوا بلادهم، فَسِرْ إليهم"(4). ومن المعلوم أنّ ابن عبّاس لم يشهد كربلاء مع الإمام الحسين عليه السلام.
2- عبد الله بن جعفر: من صغار الصحابة(5)، نشأ في حجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مع أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين، إماميّاً جريئاً في قول الحقّ(6)، اتّصل بالإمام الحسين عليه السلام، مرسلاً إليه رسالةً يثنيه فيها عن السير إلى العراق، وممّا جاء فيها: "أنشدك الله أن لا تخرج عن مكّة، فإنّي خائف عليك من هذا الأمر الذي قد أزمعت عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك"(7).
لكنّه لم يلتحق بالثورة الحسينيّة، بل رجع إلى مكّة: "فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر، أمر ابنَيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة"(8).
- من خواصّ أهل الباطل:
1- عبد الله بن عمر: ابن الخليفة الثاني، وقد كان رافضاً للثورة الحسينيّة، بل دعا الإمام الحسين عليه السلام إلى الدخول في ما دخل فيه الناس، وإلى مبايعة يزيد والصبر عليه كما صبر على معاوية من قبل، وتخلّف عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام، بل دعاه إلى متاركة بني أميّة ولزوم منزله، وأنّ بني أميّة لن يقتلوه حتّى لو لم يبايع، وممّا قاله في هذا الشأن: "ما كان ينبغي له أن لا يتحرّك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس؛ فإنّ الجماعة خير"(9).
2- عبد الله بن الزبير: أمّه أسماء بنت أبي بكر، وقد عُدَّ من صغار الصحابة(10). كانت شخصيّته قلقةً مضطربة، انعكست على آرائه ومواقفه، وكان طامحاً للرئاسة، وقد أوصله تعلّقه الأعمى بها حدّاً توهّم أن يكون هو الخليفة مع وجود الإمام، حيث قال له: "فأقم إن شئت وولّني أنا الأمر، فتُطاع ولا تُعصى"(11). ألقى الإمام عليه السلام الحجّة عليه في وجوب الخروج والثورة معه على بني أميّة، لكنّها لم تؤثّر فيه، بل كان يتمنّى خروج الإمام الحسين عليه السلام كي يدعو إلى نفسه.
•تأثير الخواصّ في النتائج والآثار
يرى الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ الخواصّ في المجتمع بإمكانهم من خلال مواقفهم أن يُغيّروا المسار، وأن يؤثِّروا بشكل فاعل في النتائج والآثار، فلو أنّ تلك الشخصيّات المعروفة التحقت بالإمام الحسين عليه السلام لما كانت النهضة دمويّةً.
"عندما تحرّك الإمام الحسين عليه السلام كان بإمكان مجموعة، من خلال التحاقها به، أن تحوّل تلك النهضة إلى ثورة بنّاءة، لا إلى نهضة دمويّة انتهت بالقتل والشهادة... فلو أنّ هذه الشخصيّات التي كانت بارزة في عالم المسلمين في ذلك اليوم، وكانت تسكن في مكّة والمدينة، وهي جميعها من أبناء شخصيّات معروفة في صدر الإسلام، خرجت برفقة الإمام الحسين عليه السلام، لوجدت حركة عظيمة، لم يكن باستطاعة يزيد ولا أعوانه، بدون شكّ، أن يقفوا في وجهها"(12).
•حركة الخواصّ تجذب العوامّ
يبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله مدى أثر حركة الخواصّ على العوامّ، وكيف يمكن للخواصّ أن يحوّلوا الرأي ويغيّروا المسار، فيقول:
"جميع الأكابر والخواصّ من أنصار الحقّ... هؤلاء بأجمعهم حينما أحسّوا ببطش السلطة الحاكمة، تخاذلوا رغبةً في الحفاظ على أنفسهم وأموالهم ومناصبهم. ونتيجة لتخاذل هؤلاء، مال عوامّ الناس إلى جانب الباطل.
لو نظرنا إلى أسماء أهل الكوفة الذين كاتبوا الإمام الحسين عليه السلام ودعوه إلى القدوم إليهم، وكان كلّهم طبعاً من طبقة الخواصّ، ومن أكابر القوم ووجهاء الناس، وكان عدد الرسائل هائلاً، بلغ مئات الصفحات، والذين كتبوها غالباً من الأعيان والوجهاء، يتبيّن من خلال لهجة تلك الرسائل كم عدد الخواصّ من أنصار الحقّ، من كان على استعداد للتضحية بدينه من أجل دنياه، ومن منهم كان حريصاً على التضحية بالدنيا في سبيل الدين.
ولكن بما أنّ عدد الذين يميلون إلى التضحية بالدين في سبيل الدنيا كان أكبر، آلت النتيجة إلى مقتل مسلم بعدما بايعه ثمانية عشر ألفاً من أهلها. وبعد ذلك خرج منها عشرون أو ثلاثون ألفاً لقتال الإمام الحسين عليه السلام. معنى هذا أنّ حركة الخواصّ تجلب في أعقابها حركة العوامّ"(13).
•حركة الخواصّ في الأزمنة اللاحقة
إنّ حسن اختيار المنهج أو سوء اختياره من قِبل بعض الخواصّ قد لا ينحصر تأثيره في زمنهم، بل غالباً ما يمتدّ إلى الأزمنة اللاحقة والأجيال الآتية، خصوصاً إن كانت الأفعال والتحرّكات ترتبط بمصير الأمّة ككلّ.
يشير إلى ذلك الإمام الخامنئيّ دام ظله محمّلاً تلك الشخصيّات في عصر الإمام الحسين عليه السلام جزءاً من المسؤوليّة عن معاناة البشريّة، فيقول: "ولعلّه لو حصل ذلك الأمر، لما عانت البشريّة عندها من هذا الشقاء والبؤس كلّه، ومن هذه الآلام والغصص والفقر وانعدام الأخلاق والجهل، والحروب وسفك الدماء، وكان العالم اليوم متقدّماً مئة سنة عمّا هو عليه حاليّاً. فأيّ شخص باستطاعته أن ينكر حجم الاستعدادات والقدرات التي أبادتها الضغوط والمحن على مرّ هذه السنوات المتمادية؟ فلولا المحن والضغوط، ولولا الحكومات الطاغوتيّة، لتفتّحت هذه الاستعدادات وانطلقت وأثمرت، ولعمرت الدنيا وتبدّلت عمّا هي عليه حاليّاً"(14).
1.من كلام له دام ظله في لقاء جمعٍ من قادة فرقة محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محرّم، 1417هـ.
2.من كلام له دام ظله في لقاء أعضاء مكتب حماية القائد وأسرهم، 12/08/2009م.
3.خلاصة الأقوال، الحلّي، ص190.
4.البداية والنهاية، ابن كثير، ج8، ص172.
5.سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، ج3، ص456.
6.راجع: الخصال، الصدوق، ص477.
7.الفتوح، ابن الأعثم، ج5، ص67.
8.الإرشاد، المفيد، ج2، ص69.
9.ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ابن عساكر، ص294، الحديث رقم 255.
10.سير أعلام النبلاء، (م.س)، ج3، ص364.
11.البداية والنهاية، (م.س)، ج8، ص179.
12.من كلام له دام ظله في خطبة الجمعة في طهران، محرّم - 1416هـ، 09/06/1995م.
13.من كلام له دام ظله في لقاء جمعٍ من قادة فرقة محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محرّم، 1417هـ.
14.دروس عاشوراء، إعداد معهد سيّد الشهداء، نشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة، ص30.