تحقيق: كوثر حيدر
"لم أكن محجّبة أو ملتزمة دينيّاً، ولكنّني بعدما تزوّجت، ارتديتُ الحجاب، بناءً على رغبة زوجي، لا قناعتي، ثمّ سافرنا إلى سويسرا.. هناك، ظهرت لديّ الكثير من التساؤلات حول الحجاب نفسه، وحول الكثير من القضايا والمسائل الدينيّة، خاصّةً بعدما عانيتُ عن كثب، في تلك البلاد، الاختلاف الكبير في الثقافات، ونمط الحياة، والقيم،... ظلّت هذه الأسئلة تحيّرني، إلى حين تعرّفتُ إلى معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام وانتسابي إلى أحد فروعها بعد عودتي إلى لبنان...".
بهذه الكلمات اختصرت "فاطمة. ك"، وهي أمّ لـ5 أولاد، الدور الذي لعبته معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام في حياتها. وقبل استكمال الحديث حول تجربة فاطمة، وسرد بعض التجارب الأخرى، لا بدّ من الوقوف قليلاً عند تأسيس هذه المعاهد والهدف منها.
•حول معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام
أسوة بالسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وبدورها الرياديّ كأمّ وزوجة وابنة، تم تأسيس معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام، التي تختصّ بالإعداد الثقافيّ والإيمانيّ للنساء، من خلال برامج تهدف لإيجاد رؤية واضحة عن العلوم الإسلاميّة، وتحصيل الثبات الفكريّ والوعي الدينيّ، والتحلّي بالقيم الإسلاميّة، وصولاً إلى التخصّص في العلوم الإسلاميّة، والمساهمة في تبليغ الإسلام عبر سلسلة من البرامج المستقاة من ينبوع الإسلام المحمّديّ الأصيل.
•نقلة نوعيّة
عند الحديث عن معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام، تلمع عينا فاطمة وتبتسم، ثمّ تقول: "إنّ أجمل شيء فعلته في حياتي بعد إنجاب الأولاد، هو انتسابي إلى أحد فروع معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام؛ لما للدراسة الإسلاميّة الدينيّة من فرصة للتقرّب من الله سبحانه وتعالى ومعرفته أكثر. ولكي لا يمرّ أولادي بالحيرة نفسها التي مررت بها، أدخلتهم إلى إحدى المدارس الإسلاميّة، حتّى يتمّ تأسيسهم تأسيساً متيناً تعليميّاً ودينيّاً معاً.
لا أبالغ إن قلت إنّ حديث أمير المؤمنين عليه السلام: (إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّه قَلَّ مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ، إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ)(1) في بالي على الدوام، كلّما رأيت ثلّة من النساء الملتزمات بالعباءة أو بالزيّ الشرعيّ، فينتابني شعور من الغبطة لما وصلنَ إليه من قناعة في احتشامهنّ والتزامهنّ، فضلاً عن الأجواء التي تحيط بمعارفي المتديّنين، الأمر الذي كان يدفعني إلى تمنّي هذه الأجواء في منزل أهلي. ولكن الحمد لله عملت على إيجادها في منزلي".
وتتابع فاطمة قائلة: "إنّ الفضل في انتسابي إلى المعهد يعود -بعد الله- إلى صديقة لي، ولا يمكن وصف مدى الرّاحة والأمان اللذين ينتابان الإنسان في ذلك المكان على مدى بضع ساعات، مضافاً إلى الشعور بطمأنينة من نوع خاصّ. بعد أوّل أسبوع من ارتيادي المعهد، استبدلتُ ملابسي القديمة جميعها بأخرى شرعيّة. بعد أن كنت أنا المعروفة بحبّي الشديد للثياب والموضة رميتها ولم يرفّ لي جفن. وقد حصل تغيير في أمور أخرى بشكل بطيء، ولكنّه كان عذباً وجميلاً، إلى أن وصلت إلى مرحلة وُلدتُ فيها من جديد، حيث باتت الأمور الدنيويّة خارج اهتماماتي، وبتّ لا أرى في الوجود إلّا الله سبحانه وتعالى".
•الامتحان الصعب
عملت فاطمة على تكريس ما اكتسبته من مفاهيم ومبادئ في بيتها وبين أولادها، إلى أن اخُتبرت ذات يوم بامتحان صعب. وحول هذا الموضوع تقول: "أراد ابني البكر المشاركة في معارك الدفاع عن المقدّسات ذات مرّة، ولكنّ الأمر كان صعباً جدّاً عليّ في البداية لم أتقبّله ورفضت ذهابه، إلى أن اطلعت من خلال الدرس على فضل الجهاد والشهادة، فتغيّرت طريقة تفكيري تماماً، وصرتُ أُحيط ابني قبل الذهاب إلى أيّ عمل جهاديّ بأمانة السيّدة الزهراء عليها السلام وعنايتها".
•"الله هو طبيب النفوس"
"بعد وفاة أخي، رحت أستشير طبيباً نفسيّاً لروع المصاب. لم أكن ألتفت إلى أنّ هذه مشيئة الله، وأنّه انتقل إلى من هو أرحم الراحمين. لكن بعد وفاة أختي كان الأمر مختلفاً، كنت قد انتسبت إلى المعهد، حزنت بالتأكيد لكنّني لم أجزع، هي انتقلت إلى مكان هو حتماً أفضل من هذا المكان وهي بين يدي خالق هو أرحم من الجميع عليها". هذا ما قالته فاطمة.
•الإمام الخمينيّ قدس سره.. المُلهم
أمّا "عناية"، فتتحدّث عن شخصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره التي جذبتها منذ نشأة الحالة الإسلاميّة في لبنان، فتقول: "كنتُ أشارك منذ صغري في النشاطات المناهضة للاستكبار، ومع مرور السنين التحقتُ بإحدى الحوزات العلميّة مدّة سنتين، لأنتقل من بعدها إلى أحد معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام، وهي هبة إلهيّة ونقلة نوعيّة في حياتي. لقد استطعتُ ترجمة الشغف الذي كنت أحمله لشخص الإمام الخمينيّ قدس سره بعد دخولي المعهد ودراسة كتبه، فكانت هذه الكتب باباً لي كي أعمل على صقل شخصيّتي المعرفيّة والمعنويّة".
وحول ما يُميّز معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام، تقول "عناية": "هي تقدّم السيرة بعين العقيدة والأخلاق، وتستطيع من خلالها أن ترى العلوم الدينيّة ترتبط بحياتك، وهو الأمر الذي ميّز نهج الإمام الخمينيّ قدس سره، مضافاً إلى تميّز المدرّسين والمدرّسات الذين يتعاونون معنا، ويعملون على التمهيد لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، عبر خلق بيئة من النساء الواعيات المتعلّمات".
•شعور الشوق الدائم
تطوّعت "عناية" خلال هذه الفترة كمشرفة في المعهد إلى جانب دراستها، وتتابع القول: "في هذه الحياة تحدّيات عظيمة وبلاءات مصيريّة تضع الإنسان أمام خيارات عليه أن يختار أحدها.. أستطيع أن أقول إنّه من خلال دراستي وعملي في المعهد، تولّد عندي نضوج اجتماعيّ، ساعدني كثيراً في محطّات حياتي، فضلاً عن الدور الذي لعبته الأخوات المؤمنات والملتزمات في حياتي، اللواتي هنّ خيرة الرفيقات. الأجمل في هذا المعهد هو شعور الشوق الدائم، فلا ملل ولا روتين يطغى، هناك دائماً حيويّة".
•الدافع القويّ منذ البداية
تخبرنا "ندى. ق" أنّها نشأت في قرية كان الالتزام فيها تقليديّاً جدّاً، وعلى الرغم من ذلك، عملت بجهد شخصيّ على بناء شخصيّتها الإيمانيّة، فراحت تعقد مع بعض قريباتها حلقات لقراءة كتب الفقه وتبادل شروحاتها مع بعضهنّ بعضاً؛ لأنّه لم يكن هناك من أحد يلجأن إليه في القرية لهذه الغاية.
وتضيف "ندى" قائلة: "ارتديتُ الحجاب في سنّ العاشرة، وكنتُ متحمّسة جدّاً للالتزام والعلم، حتّى إنّني لم أرتبط إلّا بشخص ملتزم دينيّاً. وبعد الزواج، سكنتُ في بيروت، وتعرّفتُ على المعاهد عبر إعلان أحضره لي زوجي عن افتتاح معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام. وإنّ أكثر ما شجّعني هو وجود حضانة للأطفال تعتني بأطفالي طوال فترة وجودي هناك، فهرعت إلى هناك للتسجيل مباشرة؛ لأنّ ذلك سيفيد قريتي فيما بعد".
•المعهد.. الأسرة الثانية
عند سؤال "ندى" عن شعورها تجاه المعهد، تقول: "العلوم الدينيّة هي من الواجبات الأكيدة، وهي المنطلق الأول في السير الإلهيّ والتوجّه نحو الله تعالى، فكيف إذا كانت في معهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام، حيث العلم والمحبّة والإخلاص والتفاني؟! لقد كانت شخصيّة العاملات والمدرّسين والمدرّسات جاذبة ومؤثّرة ومحفّزة، وهو ما يتميّز به المعهد، تدفع تلقائيّاً إلى التغيير نحو الأفضل. المعهد كان الأسرة الثانية التي تلجأ إليها مَن تحتاج إلى الأمان، هو المنزل الذي لا ترغب في مغادرته".
وعن ترجمة ما تعلّمتْه في المعهد سلوكاً وعملاً، تقول "ندى": "في الدرجة الأولى كان لا بدّ من مزج العلم بالعمل، وهذا أمر صعب في بدايته، وكذلك مواجهة الأمور الأخرى من بُعد المكان، والتوفيق بين المعهد والواجبات الزوجيّة من رعاية المنزل والأولاد، وبحمد الله استطعت تجاوز هذه المصاعب. لقد كان استحقاقاً كبيراً أن أكون طالبة في معهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام وزوجة وأمّاً مبلّغة ومدرّسة أيضاً".
•الفطرة والالتزام
أخيراً وليس آخراً، تذكر "الأخت.س" أنّها تربّت في بيئة غير ملتزمة دينيّاً، حيث كانت تشاهد النساء فيها يخرجن غير محتشمات حتّى، فكانت تشمئزّ لهذا المظهر على عمر كان يناهز السبعة أعوام، ولكنّها تأثّرت بأجواء أسرة جدّها لأمّها التي كانت متديّنة، الأمر الذي دفعها إلى أن تطالب بأن ترتدي الحجاب وهي في سنّ السابعة، وعن تجربتها تسرد س: "كان حبّ الالتزام فطريّاً في داخلي، وأذكر مرّةً أنّ جدّتي أعطتني حجاباً لأرتديه؛ ولكنْ مُنعت من ذلك بحجّة أنّني أستر جمالي وما زلت صغيرة. عندما بدأ الشباب بالتقدّم لخطبتي، كنتُ أرفضهم بسبب عدم التزامهم دينيّاً، إذ إنّني أردتُ رجلاً ملتزماً يعينني في ديني وحياتي، إلى أن كان لي ذلك. أردت أن أفهم واجباتي وكلّ ما أمرني الله بأدائه، وكذلك أردتُ الحصول على إجابات حول أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهني.. بعد دراستي في المعهد، بتّ أفهم أهميّة رضى وسخط الزوج، وبتّ أوليه اهتماماً.
وقد شكّل الاستماع إلى مجالس أبي عبد الله الحسين عليه السلام وقراءة القرآن، الحافز الأكبر لكي أسعى إلى التحصيل المعرفيّ الديني، فصرت أحضر ورشاً دينيّة متفرّقة، ثمّ انتسبتُ لاحقاً إلى أحد معاهد سيّدة نساء العالمين عليها السلام".
•العمل وفق المفاهيم الإسلاميّة
أمّا عن التحوّل والتأثير اللذين أحدثهما المعهد في شخصيّتها، فتقول "ندى": "حقيقةً، إنّ ما قدّمته لي هذه التجربة في المعهد كان أكبر من أن يوصف، فأنا كنت من الأشخاص الانفعاليّين، ولكنّني اليوم، وبفضل الله سبحانه وتعالى، تعوّدتُ أن أكظم غيظي، وصرتُ أتعامل مع زوجي وأبنائي والمجتمع من حولي وفقاً للمفاهيم الأخلاقيّة الإسلاميّة، وكنتُ مسرورة جدّاً عندما لمستُ هذا التغيير الكبير في شخصيّتي".
•الزهراء عليها السلام.. العين الساهرة
طوبى للنساء اللّواتي اخترن أن يسرن في هذه المنظومة الحيّة، وسوف تكون الزهراء عليها السلام الشاهدة عليهنّ، والكفيلة بتحويل مسار حياتهنّ نحو الأفضل، وفتح آفاق جديدة أمامهنّ عبر توسيع رقعة الفهم والعمل والتعليم.
1.نهج البلاغة، ج4، ص47 (حكمة رقم 207).