نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

نفحات هادية

الشيخ مهدي أبو زيد


أربعون ربيعاً من الضياء شعَّ فيها نور مولانا الإمام الهادي عليه السلام في سماء الهداية، قضى القليل منها في ظلّ أبيه مولانا الإمام الجواد عليه السلام، وتفرّد على مدى نيّف وثلاثة عقود ربّاناً لسفينة نجاة الأمّة، تتساقط عند ألق عظمته أوراق خريف الطغاة من بني العبّاس، آخذاً بيد عيال الله ليسلك بهم طريق الحقّ والعدل.

في هذا المقال، ومضة من مولانا الإمام الهادي عليه السلام، في آثار ترسيخ القيم المعنويّة وحالة العبوديّة الحقّة التي نتلمّسها من فقرات الزيارة الجامعة، وتراث من الأدعية يمتّن علاقة الفرد بخالقه، ويؤكّد أنّ بالإمكان تجاوز مفازة الدنيا دون خسارة، بل بأرباح تثقل ميزان أصحابها.

•قيمة كلمة الحقّ عند سلطان جائر
عاش الناس في زمن الإمام عليه السلام في شدّة وظلم وتعدٍّ على دين الله والاستهزاء بأوليائه، فقد أمعنت السلطة الحاكمة الانزلاق في غياهب ملاهي الدنيا الغرور، مبدّدةً ما بقي من قيم وشيم وشهامة، فانبرى أمين الله على وحيه وحجّته على أرضه عليه السلام ليصدح بشيء من درره التربويّة، منغّصاً على السلطة نشوة خيانتها، كاشفاً عن حقيقة تهزّ كيانها بسحر ربّانيّ رمى من خلاله الإمام عصى رحمة الله وعطفه؛ ليتلقّف به ما كانوا يصنعون من عناد وظلم: "لا تطلب الصفاء ممّن كدرت عليه، ولا الوفاء ممّن غدرت به، ولا النصح ممّن صرفت سوء ظنّك إليه، فإنّما قلب غيرك كقلبك له"(1). موجّهاً الكلام لذلك الطاغي الذي اعتدى على القبر الشريف لسيّد الشهداء عليه السلام، وبنى قصوراً على أنقاض آلام الناس وجوعهم ومعاناتهم، وأنفق على أحدها مبلغ ألفَي ألف دينار (أي مليونين، والدينار يساوي 3,6 غرام، فالمجموع هو 7,2 طن من الذهب(2).

•ترسيخ قيمة شكر الله والتحصّن به
روى أبو هاشم الجعفريّ: فلمّا جلست، قال [الإمام الهادي] عليه السلام: "يا أبا هاشم، أيّ نِعَم الله عليك تريد أن تؤدّي شكرها..؟ إنّ الله تعالى رزقك الإيمان فحرم بدنك به على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل. يا أبا هاشم، إنّما ابتدأتك بهذا لأنّي ظننت أنّك تريد أن تشكو إليَّ من فعل بك هذا. قد أمرت لك بمائة دينار فخذها"(3). كلمات تريد لأبناء المدرسة الولائيّة النظر إلى الأفق الرحب لمنن الله تعالى، على الرغم من تضييق الطغاة على عباد الله تعالى: فهل من رزق أكثر قيمةً وأرقى من ذلك الذي يضمن للمؤمن مستقبلاً قوامه جوار الله تعالى؟

وهكذا بنى مولانا الإمام الهادي عليه السلام لَبِنات الحصانة في البيئة المؤمنة؛ إذ يقول عليه السلام لبعض أصحابه: "يا فتح، من أطاع الخالق لم يبالِ بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق"(4)... فالمهمّ أن ينظر الفرد إلى تمتين علاقته بخالقه.

•العلاقة مع أمناء الرحمان
لقد رسم الإمام الهادي عليه السلام في الزيارة الجامعة صورة كاملة ناصعة لمن فرض الله علينا طاعتهم وولايتهم، وحدّد ما هو تكليف الأمّة، بل والبشريّة تجاههم، بمضامين عالية تشهد على نبع غزير فيّاض ترقرقت عند جنباته بياناً للمقام الشامخ لأئمّة الهدى عليهم السلام(5).

فكلّ مقطع من الزيارة بحر زاخر، وعبق فاخر، فمن الحروف الأولى ينتشر عبير المعاني الفوّاح، فهُم عليهم السلام: "... مَوْضِعَ الرِّسالَةِ، وَمُخْتَلَفَ المَلائِكَةِ، وَمَهْبِطَ الوَحْي، وَمَعْدِنَ الرَّحْمَةِ وَخُزَّانَ العِلْمِ.. وَساسَةَ العِبادِ، وَأَرْكانَ البِلادِ، وَأَبْوابَ الإيْمانِ، وَأُمَناءَ الرَّحْمنِ، وَسُلالَةَ النَّبِيِّينَ، وَصَفْوَةَ المُرْسَلِينَ، وَعُتْرَةَ خِيرَةِ رَبِّ العالَمِينَ، الدُّعاةِ إِلى الله، وَالأَدِلّاء عَلى مَرْضاةِ الله، وَالمُسْتَقِرِّينَ فِي أَمْرِ الله، وَالتَّامِّينَ فِي مَحَبَّةِ الله، وَالمُخْلِصِينَ فِي تَوْحِيدِ الله، وَالمُظْهِرِينَ لأمْرِ الله وَنَهْيِهِ، وَعِبادِهِ المُكْرَمِينَ الَّذِينَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" -والفقرة الأخيرة توصيف ذكره القرآن الكريم عن الملائكة-، ثمّ يتدرّج عليه السلام ليجعل طاعتهم امتداداً لطاعة الله، وسياق العبوديّة الصحيح: "... كَما شَهِدَ اللهُ لِنَفْسِهِ وَشَهِدَتْ لَهُ مَلائِكَتُهُ وَأُولُو العِلْمِ مِنْ خَلْقِهِ...، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المُنْتَجَبُ وَرَسُولُهُ المُرْتَضى...، وَأَشْهَدُ أَنَّكُمْ الأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ المَهْدِيُّونَ المَعْصُومُونَ المُكَرَّمُونَ، اصْطَفاكُمْ بِعِلْمِهِ وَارْتَضاكُمْ لِغَيْبِهِ، وَاخْتارَكُمْ لِسِرِّهِ... وَجَعَلَ صَلاتَنا عَلَيْكُمْ وَما خَصَّنا بِهِ مِنْ وِلايَتِكُمْ طِيباً لِخَلْقِنا، وَطَهارَةً لأَنْفُسِنا، وَتَزْكِيَةً لَنا، وَكُفَّارَةً لِذُنُوبِنا، فَكُنَّا عِنْدَهُ مُسَلِّمِينَ بِفَضْلِكُمْ..."(6)؛ فمن حصّل هذه العقيدة، هو معهم وفي زمرتهم وعلى طريقتهم.

•طرق النجاة: ذكر الله والولاية
كتب الإمام الهادي عليه السلام لمن سأل أن يعلمه دعوة جامعة للدنيا والآخرة: "أكثر من الاستغفار والحمد، فإنّك تدرك بذلك الخير كلّه"(7)؛ لأنّ المرء ما دام ذاكراً لله تعالى فهو مريد للنجاة، ويريد أن يكون مع الله تعالى، ومن كان مع الله كان الله معه.

ويسأله آخر، وهو سهل بن يعقوب: يا سيّدي، في أكثر هذه الأيّام قواطع عن المقاصد -تحول دون تحقيق الغايات-.. فقال عليه السلام: "يا سهل، إنّ لشيعتنا بولايتنا لعصمة، لو سلكوا بها في لجّة البحار الغامرة، وسباسب البيداء –المفازة من الأراضي المتّسعة- الغابرة، بين سباع وذئاب، وأعادي الجنّ والإنس، لأمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عزَّ وجلَّ، وأخلص في الولاء لأئمّتك الطاهرين عليهم السلام، وتوجّه حيث شئت، واقصد ما شئت [يا سهل]، إذا أصبحت وقلت ثلاثاً: (أصبحت اللهمّ معتصماً بذمامك المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول، من شرّ كلّ طارق وغاشم من سائر ما خلقت، ومن خلقت من خلقك الصامت والناطق، في جنّة من كلّ مخوف بلباس سابغة، ولاء أهل بيت نبيّك... موقناً بأنّ الحقّ لهم ومعهم وفيهم وبهم، أوالي من والوا، وأجانب من جانبوا، فصلِّ على محمّد وآل محمّد، وأعذني اللهمّ بهم من شرّ كلّ ما أتّقيه، يا عظيم...)، وقلتها عشيّاً ثلاثاً، حصلت في حصن من مخاوفك"(8).

ومنه قوله عليه السلام: "اللهمّ بك يصول الصائل، وبقدرتك يطول الطائل، ولا حول لكلّ ذي حول إلّا بك، ولا قوّة يمتازها ذو قوّة إلّا منك، بصفوتك من خلقك، وخيرتك من بريّتك، محمّد نبيّك، وعترته وسلالته عليهم السلام، صلِّ عليهم، واكفني شرّ هذا اليوم وضرره..."(9).

•دعاء السحر
ثمّة أيضاً ما عُرف من أدعيته عليه السلام في الأسحار: "يا نور النور، يا مدبّر الأمور، يا مجري البحور، يا باعث من في القبور، يا كهفي حين تعييني المذاهب، وكنزي حين تعجزني المكاسب، ومؤنسي حين تجفوني الأباعد، وتملّني الأقارب، ومنزهي بمجالسة أوليائه ومرافقة أحبائه في رياضه... أسألك يا مولاي...، وبأسمائك العظام، بحججك على جميع الأنام عليهم منك أفضل السلام، وبما استحفظتهم من أسمائك الكرام أن تصلّي عليهم وترحمنا"(10).

•لآلئ المعرفة
وهكذا، على الرغم من التضييق الذي قاساه إمامنا الهادي عليه السلام من حكّام الجور، والإقامة القسريّة لعقدين من الزمن، فقد كان يصل مواليه وشيعته بالعناية وبكثير من التحفّظ، ويمدّهم بالكنوز التي أجراها الباري على نفسه الزكيّة، فاعتادوا تلقّف الأنوار مع بُعد الشقّة ورقابة السلطة، وهو جميل تدبير الله لتصل الأمّة إلى مستوى تجني فوائد أئمّة الهدى عليهم السلام كاستفادة الناس من الشمس وإن ظلّلها السحاب.


1.الأنوار البهية، عبّاس القمّي، ص287.
2.معجم البلدان، الحموي، ج1، ص499.
3.الوافي، الفيض الكاشاني، ج5، ص708.
4.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص308.
5.الوافي، (م.س)، ج14، ص1567.
6.مفاتيح الجنان، عبّاس القمّي، ص783.
7.الأنوار البهيّة، (م.س)، ص278.
8.مستدرك الوسائل، (م.س)، ج8، ص342.
9.الأمالي، الطوسي، ص278.
10.بحار الأنوار، المجلسي، ج95، ص383.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع