الشيخ تامر محمد حمزة
إن الظروف السياسية التي مرّ بها الإمام علي الهادي عليه السلام لا تختلف ولا تتخلف كثيراً عن ظروف آبائه وأبنائه المعصومين عليهم السلام. فمن جهة، هي مشتركة بينهم كمنعهم من ممارسة الدور السياسي والاجتماعي، وتحركهم في التخفي والتقية من شدة الظلم الذي كان يمارس عليهم عليهم السلام. ومن جهة أخرى، هناك مجموعة عوامل نتيجة الظروف الموضوعية المحيطة بالإمام الهادي عليه السلام تحكم حياته السياسية. ويمكن أن نرصد ثلاثة عوامل كانت تشكل تلك الظروف لحياته المباركة.
أولاً: نشر ثقافة الغيبة، كبداية لتدريب الشيعة على التواصل مع إمامهم بطريقة غير مباشرة، بعد أن تعودوا على الاتصال المباشر بأئمتهم لفترة قرنين من الزمن. ولذا، فدوره في هذا المجال يعتبر تأسيسياً وصعباً للغاية، بلحاظ تبديل ثقافة الشيعة من الاتصال المباشر إلى الاتصال بواسطة الوكلاء وتغيير ما قد تعودوا عليه.
ثانياً: تولى منصب الإمامة وله من العمر ثماني سنوات، حيث كانت ولادته عام 212ه-، وقد صادف تاريخ شهادة والده الإمام محمد الجواد عليه السلام 220 ه-، وهذا العمر الصغير - وإن كنا لا نرى إشكالاً في التصدي لمنصب الولاية والإمامة على المستوى الاعتقادي، إلا أنه - ربما - يشكل حرجاً لبعض ضعاف النفوس.
ثالثاً: عاصر الإمام الهادي عليه السلام ثمانية من الحكام العباسيين، إثنين في ظل إمامة أبيه وهما المأمون والمعتصم، وستة في ظل إمامته المباركة وهم على نحو الترتيب (المعتصم، الواثق، المتوكل، المعتصم، المستعين، المعتز). وقد قضى أربعاً وثلاثين سنة "220- 254" مع هؤلاء الظلمة، لا سيما مع أخبثهم وأشدهم ظلماً المتوكل العباسي المعروف بحقده وكراهيته لأهل البيت عليهم السلام، حتى اتسعت مروحة حنقه ونصبه لتصيب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام. والقصص كثيرة في ذلك وطويلة، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).
في ظل هذه الظروف المشتركة والخاصة - وبالرغم من العزلة التي فرضتها السلطة العباسية على الإمام الهادي عليه السلام، وتشديد المراقبة عليه من خلال زرع العيون لمراقبة كل تحركاته وسكناته - لم يتخل كغيره من الأئمة الأطهار عليهم السلام عن ممارسة دوره السياسي والاجتماعي، من خلال الاتصال المباشر مع الشيعة، أو من خلال الوكلاء كأسلوب للتواصل غير المباشر الذي أسس بنيانه الإمام الجواد عليه السلام. وسوف يتم التركيز - لبيان الحياة السياسية للإمام عليه السلام - على حاكمين هما المعتصم أول الحكام في عهد الإمام عليه السلام، والمتوكل، والتركيز بالأخص على هذا الثاني لحيثيتين وهما: شدة تنكيله بالإمام، وبغضه لأهل البيت عليهم السلام ولطول عهده الذي بلغ خمس عشرة سنة. أما معاصرته للحاكم الأول وهو المعتصم، فأخطر ما قام به محاولة تعيين معلم ومؤدب من أبرز وأشهر المؤدبين ومن أكثرهم نصباً لأهل البيت وانحرافه عنهم يقال له الجنيدي، وكان عمر الإمام آنذاك حوالي ثماني سنوات، بغية التأثير على عقائده وأفكاره. إلا أن هذا المعلم قد ذهل مما كان يراه من حدة ذكائه، وحين سئل الجنيدي، فقيل له ما حال هذا الصبي؟ أجاب سائله: دع عنك هذا القول، والله، تعالى، لهو خير أهل الأرض وأفضل من برأه الله تعالى، وإنه لربما همّ بدخول الحجرة فأقول له: حتى تقرأ سورة، فيقول أي سورة تريد أن أقرأها؟ فأذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها، فيسرع بقراءتها ما لم أسمع أصح منها، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داوود. إنه حافظ القرآن من أوله إلى آخره ويعلم تأويله وتنزيله.وأضاف الجنيدي قائلاً: هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود، فمن أين علم هذا العلم الكبير؟ يا سبحان الله، "ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت عليهم السلام ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة"(1).
* حياة الإمام في عهد المتوكل العباسي:
إن أحرج الظروف التي أحاطت بالإمام الهادي عليه السلام وبشيعته كانت في عصر المتوكل العباسي للأمور التالية:
أولاً: فترة ملكه الطويلة والتي دامت خمس عشرة سنة من عمر الإمام الهادي عليه السلام، إذ امتدت من 232 إلى 247ه- .
ثانياً: شدة بغضه لأهل البيت عليهم السلام، وقد تجسد بالأعمال التالية:
أ - أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليه السلام سنة 236ه-، وهدم ما حوله من الدور، ومنع الناس من زيارته، وأمر بمعاقبة من يتمرد عن المنع، فقد قال السيوطي: " وكان المتوكل معروفاً بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء"(2).
ب - عمد إلى قتل معلم أولاده وهو يعقوب ابن السكيت حين سأله: من أحب إليك: المعتز والمؤيد أو الحسن والحسين؟ فقال ابن السكيت: قنبر خير منهما، فأمر الأتراك، فداسوا بطنه حتى مات، وقيل أمر بسلّ لسانه، فمات سنة 244ه-(3).
ج - إحضار الإمام من مدينة جده إلى سجون سرّ من رأى بعيداً عن وطنه المدينة حاضرة العلم، وكان ذلك سنة 234ه-، عندما أرسل المتوكل يحيى بن هرثمة، مما أدى إلى اضطراب المدينة كما ينقل يحيى نفسه(4). وقام المتوكل بهذا العمل نتيجة ما وشى به بُريحة إمام الحرمين المعروف بنصبه وعداوته لأهل البيت عليهم السلام(5).
د - اعتقال الإمام عدة مرات وإيداعه في السجن بعد مداهمة بيته على أثر الوشاية عليه بحمل الأموال إليه من الأقطار وبجمع السلاح في بيته. وكان يوضع أحياناً في زنزانات انفرادية، حتى أنه في إحدى اعتقالاته أدخلوه على المتوكل وهو على طاولة الخمر، فحمل كأساً وقدمها للإمام، فرفض تناولها، ثم ألحّ عليه بأن ينشده شعراً، فأنشده تلك القصيدة المشهورة، والتي مطلعها:
باتوا على قِلَلِ الأَجْبالِ تحرسهم |
غُلبُ الرجالِ فما أغنتهم القِلَلُ |
وما إن فرغ من القصيدة، حتى بكى المتوكل وأمر برفع الشراب.
* القراءة السياسية:
يخلص المتأمل في سلوك السلطة العباسية مع الإمام الهادي عليه السلام، لا سيما المعتصم والمتوكل، إلى النتيجة التالية:
1. محاولة تربية الإمام بالطريقة التي تؤدي إلى عدم كونه مصدر خطر على السلطة العباسية.
2. مدى تأثير وفاعلية الإمام في وسط المجتمع الذي قام فيه، على مستوى العلم والسياسة والاجتماع.
3. تعلق المجتمع بالإمام، ويظهر ذلك من خلال الاضطرابات التي حصلت بمجرد علمه باعتقال الإمام وإبعاده عن المدينة المنورة.
4. وشاية إمام الحرمين بُريحة إلى المتوكل بالإمام عليه السلام. إذ لولا شعوره بقوة تأثير الإمام، لما قام بفعلته الشنيعة.
5. خشية السلطة العباسية من تعاظم أمره وسهولة تواصله مع جميع شرائح المجتمع، فالسبيل الوحيد للقضاء على كل ذلك يكون من خلال إخراج الإمام من المدينة إلى معسكر الأتراك في سامراء وزجّه في السجن.
6. كان المتوكل يعتبر زيارة الإمام الحسين عليه السلام بحد ذاتها مدرسة لرفض الظلم ومواجهة الظلمة، ما حدا به إلى تهديم قبره ومنع زيارته. ومما يكشف لنا عن عظيم ما قام به المتوكل من الإهانة والإذلال للإمام ومضايقته - ولفترة طويلة - أنه لم يبقَ أمامه سوى سبيل صنع المعجزة من خلال الدعاء عليه بدعاء المظلوم على الظالم، إذ يعتبر من الكنوز المشرقة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ولم تمضِ ثلاثة أيام من الدعاء حتى هلك على أيدي جنده وحرسه الذين هجموا عليه بوجود الفتح بن خاقان وقطعوهما إرباً إرباً بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر ودفنا معاً. وبذلك انطوت مرحلة عصيبة من مراحل الليالي المظلمة على أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم الذين تلقوا النبأ بمزيد من الابتهاج والأفراح.
(1) من أعلام الهداية عن مآثر الكبراء في تاريخ سامراء، ج3، ص91 - 92.
(2) تاريخ الخلفاء السيوطي 347.
(3) تاريخ الخلفاء السيوطي 348.
(4) تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي 203.
(5) الإرشاد، ج2، ص309.