الشيخ محمود عبد الجليل
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "وإنّ الله تعالى ركّب في صلبه (الإمام الجواد) نطفة لا باغية ولا طاغية، بارّة مباركة طيّبة طاهرة، سمّاها عنده عليّ بن محمّد، فألبسها السكينة والوقار، وأودعها العلوم وكلّ سرّ مكتوم، مَن لقيه وفي صدره شيء أنبأه به وحذّره من عدوّه"(1).
هو الإمام الهادي عليه السلام، أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى، عاشر أئمّة أهل البيت عليهم السلام، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
•ولادته ونشأته
وُلد عليه السلام في قرية صُريا، وهي قرية أسّسها الإمام الكاظم عليه السلام، وتبعد 3 أميال عن المدينة المنوّرة(2). وقد اختُلف في تحديد زمان ولادته عليه السلام على أقوال منها: 15 من ذي الحجّة سنة 212هـ(3)، وقيل: في 27 منه(4)، وروي: أنّه ولد في 3 رجب سنة 214هـ(5). وعن ابن عيّاش: أنّه وُلد في 2، أو 5 من رجب(6)، وفي رواية إبراهيم بن هاشم القمّي أنّه عليه السلام ولد لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب(7).
وممّا يؤيّد ولادته في رجب الدعاء المرويّ عن الناحية المقدّسة: "اللهمَّ، إنّي أسألك بالمولودَين في رجب: محمّد بن عليّ الثاني، وابنه عليّ بن محمّد المنتجب، وأتقرّب بهما إليك خير القرب..."(8).
•كنيته وألقابه ونقش خاتمه
يُكنّى عليه السلام بأبي الحسن، وتمييزاً له عن الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام يُقال له أبو الحسن الثالث.
وأمّا ألقابه فكثيرة، منها: الهادي والنقيّ وهما أشهر ألقابه، والمرتضى، والفتّاح، والناصح، والمتوكّل، وقد مُنع شيعته من أن ينادوه به لأنّ الخليفة العباسيّ كان يُلقّب به، ويُلقّب عليه السلام وابنه الحسن بـالعسكريّين، نسبة إلى المحلّة التي سكناها بسرّ من رأى، وكانت تسمّى عسكراً(9)، وكانت يومها معسكراً للجند.
وأمّا نقش خاتمه عليه السلام، فكان: "الله ربّي، وهو عصمتي من خلقه"(10).
•والدته العارفة بحقّه
كانت أُمُّه الماجدة أُمَّ ولد، يُقال لها سمانة(11) أو سمانة المغربيّة(12)، وقيل: جمانة(13). وكان يقال لها السيّدة أم الفضل(14)، وكانت من النساء الطاهرات، ويقال إنّها كانت دائمة الصوم، ولا مثيل لها في الزهد والتقوى، وقد تحدّث الإمام عليه السلام عن فضل أمّه بقوله: "أمّي عارفة بحقّي، وهي من أهل الجنّة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبّار عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تتخلّف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين"(15).
•من فضائله ومناقبه
عاش الإمام عليه السلام مع والده الإمام الجواد عليه السلام نحو سبع سنوات قبل شهادته، وقد نصّ على إمامته ثمّ سلّمه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومواريث الأنبياء، وكان حميد الصفات وعظيم الأخلاق، فعمّت فضائله ومناقبه الأرجاء، منها:
أ- قضاؤه لحوائج شيعته: روي عن أبي هاشم الجعفريّ، قال: أصابتني ضيقة شديدة، فصرت إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد عليهما السلام فأذن لي، فلمّا جلست قال: "يا أبا هاشم، أيّ نعم الله عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟"، قال أبو هاشم: فوجمت(16)، فلم أدرِ ما أقول له، فابتدأ عليه السلام فقال: "رزقَك الإيمان، فحرَّم به بدنك على النّار، ورزقَك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقَك القنوع، فصانك عن التبذُّل. يا أبا هاشم، إنّما ابتدأتك بهذا؛ لأنّي ظننت أنّك تريد أن تشكو إليّ من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها"(17).
ب- هيبته: رَوى محمّد بن الحسن الأشتر العلويّ، قال: "كنت مع أبي على باب المتوكّل، وأنا صبيّ، في جمع من الناس ما بين طالبيّ إلى عبّاسيّ وجعفريّ، ونحن وقوف إذ جاء أبو الحسن ترجّل الناس كلّهم، حتّى دخل، فقال بعضهم لبعض: لِمَ نترجّل لهذا الغلام، وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ والله لا ترجّلنا له. فقال أبو هاشم الجعفريّ: والله لتترجَّلَنَّ له صَغاراً وذلّةً إذا رأيتموه، فما هو إلّا أن أقبل وبصروا به حتّى ترجّل الناس كلّهم، فقال لهم أبو هاشم الجعفريّ: أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا له: والله ما ملكنا أنفسنا حتّى ترجّلنا"(18).
•أمّ المتوكِّل تنذر للإمام عليه السلام
لقد ظهر فضلُ الإمام الهادي وعظيم منزلته عليه السلام ليس عند مَن لم يعتقد بإمامته فحسب، بل في بيت أعدائه؛ فهذه أمُّ المتوكِّل تنذر المال الجليل له عليه السلام، فقد جاء في الإرشاد: "مرض المتوكّل من خُراج(19) خرج به، فأشرف منه على الموت، فلم يجسر أحد أن يمسَّه بحديدة، فنذرت أمُّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليِّ بن محمّد مالاً جليلاً من مالها. وقال له -للمتوكِّل- وزيرُه الفتح بن خاقان: لو بعثتَ إلى هذا الرجل -يعني أبا الحسن- فسألته فإنّه ربّما كان عنده صفة شيء يفرج الله به عنك، فقال: ابعثوا إليه. فمضى الرسول ورجع، فقال: خذوا كُسب(20) الغنم فديفوه بماء ورد، وضعوه على الخراج، فإنّه نافع بإذن الله. فجعل من بحضرة المتوكّل يهزأ من قوله، فقال لهم الفتح: وما يضرّ من تجربة ما قال؟ فوالله إنّي لأرجو الصلاح به، فأُحضر الكُسب وديف بماء الورد ووُضع على الخراج، فانفتح وخرج ما كان فيه، فبُشِّرت أمُّ المتوكِّل بعافيته، فحملت إلى أبي الحسن عليه السلام عشرة آلاف دينار تحت ختمها، واستقلّ المتوكِّل من علَّته"(21).
•المقام العلميّ للإمام عليه السلام
العلم والمعرفة من أبرز صفات الإمامة وخصائصها في الإسلام؛ لكون الإمام هو المسؤول عن حماية الشريعة والعقيدة من أي تحريف أو تزييف، ومن جهة أخرى مسؤول عن تربية الأمّة، وقيادتها إلى برِّ الأمان، من خلال بيان النظم والقوانين والمفاهيم القيميّة وتشخيصها وتطبيقها. ومع أنّ عصر الإمام الهادي عليه السلام قد تميَّز بالضغط والتضييق من قبل حكَّام زمانه، ولكن بنظرة سريعة إلى عدد أصحابه عليه السلام الذي ناهز الـ400، وفيهم العلماء والفقهاء والمؤلّفون، وعلى رأسهم السيّد عبد العظيم الحسني، وعلي بن مهزيار والريان بن الصلت، وغيرهم الكثير الذين نقلوا لنا تراث الإمام عليه السلام في مجالاته المختلفة، ندرك عظمة الدور العظيم الذي اضطلع به الإمام عليه السلام.
•من تراث الإمام عليه السلام وأقواله
وممّا تركه الإمام من تراثه الثرِّ -فضلاً عن كلماته وتفسيره وأدعيته- رسالته المفصّلة إلى أهل الأهواز، يجيبهم فيها عن سؤالهم عن الجبر والتفويض، شارحاً فيها حديث جدّه الإمام الصادق عليه السلام حينما قال: "لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين"(22).
فقال في بيانه: "صحّة العقل، وتخلية السَرْب، والمهلة في الوقت، والزاد قبل الراحلة والسبب المهيِّج للفاعل على فعله، فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلّة كان العمل مطروحاً بحسبه، وأنا أضرب لكلّ باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي: الجبر، والتفويض، والمنزلة بين المنزلتين، مثلاً يقرِّب المعنى للطالب، ويسهِّل له البحث في شرحه، ويشهد به القرآن بمحكم آياته، ويحقِّق تصديقه عند ذوي الألباب، وبالله العصمة والتوفيق".
ثمّ بسّط الكلام في كلّ من الجبر والتفويض مفنِّداً لهما ومثبتاً لقضية الأمر بين الأمرين بقوله: "إنّ الله خلق الخلق بقدرته وملَّكهم استطاعة ما تعبَّدَهم به من الأمر والنهي، وقبِل منهم اتّباع أمره ونهيه، ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذمَّ من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريده ويأمر به، وينهى عمّا يكره، ويثيب ويعاقب بالاستطاعة التي ملَّكها عباده لاتّباع أمره واجتناب معاصيه؛ لأنّه العدل ومنه النصفة والحكومة، بالَغ الحجة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمّداً (صلوات الله عليه وآله)، وبعثه بالرسالة إلى خلقه، ولو فوَّض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أميّة بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفيّ؛ إذ كانا عندهم أفضل من محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما قالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف: 31) يعنونهما بذلك فهذا هو: (القول بين القولين) ليس بجبر ولا تفويض..."(23).
•إمامته عليه السلام
تسلّم الإمام الهادي عليه السلام منصب الإمامة بعد شهادة أبيه سنة 220 هـ، وله من العمر بين ستّ وثماني سنوات. ولم تُشكّل إمامته المبكرة أيّ مشكلة عند الشيعة؛ لِمَا أسّسته إمامة أبيه المبكرة أيضاً قبله. يقول الشيخ المفيد: "كان الإمام بعد أبي جعفر عليه السلام ابنه أبا الحسن عليّ بن محمّد، لاجتماع خصال الإمامة فيه، وتكامل فضله، وأنّه لا وارث لمقام أبيه سواه، وثبوت النصّ عليه بالإمامة، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة"(24). وقد امتدّت إمامته 34 سنة منذ شهادة أبيه الجواد عليه السلام سنة 220هـ، حتّى شهادته عليه السلام سنة 254هـ.
•شهادته عليه السلام
استشهد عليه السلام -وله من العمر زهاء 40 عاماً- مسموماً في (سرّ من رأى)، يوم الاثنين في 3 رجب سنة 254هـ، وقيل: يوم الاثنين في 25 من جمادى الآخرة- والتأريخ الأوّل أشهر، حيث نصّ عليه أغلب أعلام الطائفة ومحدّثيهم ومؤرّخيهم، في زمان حكم المعتزّ، ودُفن في داره التي ابتاعها من دُليل بن يعقوب النصرانيّ(25) في (سرّ من رأى)، بعد أن صلّى عليه الإمام العسكريّ عليه السلام وتسلّم منه مقاليد الإمامة.
فسلام عليه يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً.
1.عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ص64.
2.مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج4، ص401.
3.الإرشاد، المفيد، ج2، ص297.
4.بحار الأنوار، المجلسي، ج50، ص116.
5.دلائل الإمامة، الطبريّ، ص409.
6.مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص805.
7.بحار الأنوار، (م.س)، ج50، ص116.
8.مصباح المتهجّد، (م.س)، ص804- 805.
9.معاني الأخبار، الصدوق، ص65.
10.الفصول المهمّة، الحرّ العاملي، ص274.
11.الإرشاد، (م.س)، ج2، ص298.
12.مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج4، ص401.
13.إثبات الوصيّة، المسعوديّ، ص228.
14.مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج4، ص401.
15.دلائل الإمامة، (م.س)، ص410.
16.وجم: أطرق وسكت عن الكلام.
17.الأمالي، الصدوق، ص498.
18.بحار الأنوار، (م.س)، ج50، ص132.
19.ما يخرج في البدن من القروح.
20.الكسب بالضم عصارة الدهن، والدوف البلّ والخلط.
21.الإرشاد، (م.س)، ج2، ص302.
22.الاحتجاج، الطبرسيّ، ج2، ص487.
23.(م.ن)، ج2، ص490.
24.الإرشاد، (م.س)، ج2، ص297.
25.تاريخ بغداد، الخطيب البغداديّ، ج12، ص57.