رفيق درب
"قد يكون عماد مغنيّة جالساً على مائدة مجاورة لنا، يسمعنا ويضحك ولا نعرفه. باختصار، نحن نطارد هدفاً تتغيّر ملامحه مع الزمن"(1). هكذا كان يراه إعلام العدوّ، وإلى الآن يخاف ظلّه الذي تركه في عشرات من الـ"عماد مغنية"، الذي كان من مصاديق ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29).
في هذا المقال يحدّثنا أحد رفاق دربه عن وجهه الآخر: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾، عن أخلاقه، محبّته، عن وجه القائد القدوة.
•سماته كقائد قدوة
للشهيد القائد مزايا أخلاقيّة وشخصيّة كثيرة، وقد نقصّر في طرح بعضها، لكن عندما يحضرني اسمه، أتذكّر مباشرة:
1- صانع الفرص: لا نستطيع أن نطلق على الحاج الشهيد عماد مغنيّة أنّه قائد يستفيد من الفرص الموجودة، مع أنّه كان كذلك، فهي في الإدارة درجة نجاح وتميّز، لكنّ الوصف الأهمّ للشهيد أنّه صانع الفرص وموجدها، فقد كان يبحث عن الفرصة، وإن لم يجدها أوجد ظروفها وابتكرها.
2- يتبنّى الرأي الصائب دائماً: كان الشهيد يحرص في الاجتماعات واللقاءات مع الإخوة المجاهدين، على معرفة آرائهم جميعاً، بمعزل عن رتبهم التنظيميّة أو مسؤوليّاتهم، وإذا وجد رأياً صائباً من أحد الإخوة كان يدعو إلى تبنّيه والعمل به، حتّى ولو كان يخالف رأيه الشخصيّ.
3- يسأل عن الجميع ويثني عليهم: كان يحرص في زياراته إلى المحاور والمراكز وأماكن العمل على لقاء الجميع في المستويات والرتب التنظيميّة كلّها، والاستماع إليهم ومعرفة أوضاعهم وآرائهم وأفكارهم ومقترحاتهم والثناء عليهم وعلى جهودهم، وتشجيعهم الدائم. وهذا ما كان يدفع الإخوة إلى محبّته وألفته.
4- يعمل تحت الضغط بمتعة فائقة: لم يكن من النوع الذي يتعبه ضغط العمل، بل يزيده إبداعاً ومسؤوليّةً، وكنّا نلمح بارقة المتعة في عينيه كلّما لاحت له فكرة أو خطّط لإنجاز يكسر به شوكة الأعداء في أوجّ الضغط، كان يتقن فنّ إضفاء المتعة على العمل لشدّة وضوح هدفه ويقينه بالنصر.
•مواقف وقصص
أمّا في المواقف والقصص التي يمكن أن نذكرها عنه:
1- "دعه يَنلْ نصيبه من العمل"
بعد تحرير الجنوب عام 2000م، ذهب الشهيد لزيارة أحد المحاور، وعندما حان وقت الغداء، وضع الإخوة الطعام. بعد الغداء، ذهب الشهيد القائد "عماد" إلى المطبخ وأخذ يغسل الصحون، فبادره أحد الإخوة الذي لم يكن يعرفه: "إجلي، إجلي، هل تريد الأكل فقط؟"، فابتسم الشهيد وقال له: "اجمع لي باقي الأواني، لأغسلها"، وهذا ما فعله الأخ. وبعد برهة، دخل إلى المطبخ الأخ المسؤول عن المحور، الذي يعرف الشهيد القائد وشاهده يغسل الصحون، والأخ يضيف الأواني ويكوّمها أمامه، فسأل الشاب: "هل تعرفه؟"، فأجابه: "من المؤكّد هو مسؤول رفيع ومعتادٌ على الاتّكال على الآخرين، ولا يخدم أحداً، دعه يَنل نصيبه من العمل"، فقال المسؤول: "هذا الحاج رضوان"، فأخذ الأخ المجاهد يعتذر، والشهيد يبتسم له ويضحك بوجهه، بل لم يُشكّل الأمر لديه فارقاً.
2- "المجاهدون وروحيّتهم من أعظم النعم الإلهيّة"
بعد حرب تمّوز 2006م بأيّام عدّة ذهبنا معاً في مشوار عمل، سألته: "برأيك، ما هي أهمّ نقطة إيجابيّة اكتشفناها خلال الحرب؟"، فابتسم وقال: "أهمّ نقطة أنّ الكثير لم يقدّروا عظمة إخواننا المجاهدين وأهمّيّتهم، لكن أثناء الحرب اكتشف الجميع ما كنت أردّده: إنّ أعظم وأهمّ ما نمتلكه هم هؤلاء الإخوة المجاهدون وروحيّتهم. هم من أهمّ النعم الإلهيّة في هذا الخطّ".
3- تقبّله النقد والنصيحة
بين التحرير 2000م وحرب 2006م، كانت الفترة فترة التحضير والجهوزيّة للمقاومة استعداداً للحرب القادمة، وكان الشهيد شديد الانشغال في الليل والنهار، ليس في الاجتماعات والقاعات والجلسات، بل في الميدان وفي كلّ مكان يتطلّبه العمل. وأذكر أنّنا كثيراً ما كنّا نجده قد ركن سيارته بعد منتصف الليل على زاوية طريق، ونام داخلها بمفرده؛ لأنّه لم يعد يستطيع القيادة للوصول إلى بيته أو مركز ما ليرتاح فيه. المقلق أنّه في ظلّ ذلك الانشغال يبقى في السيارة بمفرده دون مرافقة. فقلت له يوماً: "سأشكوك إلى سماحة السيّد" فضحك، ولم يعلّق وهو ما فعلته حرصاً عليه، وعندما حدّثه سماحة السيّد بالأمر، لم يغضب منّي ولم يطالبني بذلك.
4- مبادلة الإساءة بالإحسان والصلة
كان الشهيد يحرص على التواصل مع الجميع صغاراً وكباراً، حتّى الذين كانوا يغضبون منه لجديّته في العمل، أو يقاطعونه، فكان يذهب لزيارتهم ويصرّ على اللقاء بهم، ولم يكن متعالياً بحيث يطلب منهم أن يأتوا إليه، بل يبادر هو إلى الذهاب إلى بيوتهم أو دعوتهم إلى الطعام. أذكر مرّة كنّا معاً فقال: "دعنا نمرّ ونسلّم على فلان"، قلت له: "لقد أساء إليك كثيراً"، فأجابني: "إنّ واجبي وأخلاقي يفرضان عليّ أن أزوره ولا أقاطعه"، وفعلاً ذهب إلى منزله كضيف وصديق، لا يعاتب ولا يلوم ولا يقاطع، بل دخل بابتسامته المعهودة التي تجلو القلوب.
5- تحمّل المسؤوليّة وتدارك التقصير
في تحمّل المسؤوليّة عن أيّ تقصير أو خطأ كان يتصدّى بشخصه ونفسه، ويقول إنّه هو من يتحمّل المسؤوليّة عن هذا الخلل، ولا يقوم بإلقاء التبعة على الآخرين أبداً، فلطالما كان يقول إنّه قائد ومسؤول ومكلّف بهذه الأمانة، حتّى لو كان التقصير ناشئاً عن أحد المجاهدين، لكنّه هو المسؤول عنه. في حين أنّه كان شديد المتابعة، يقظاً، كثير الحيويّة في العمل، ولم يكن مقصّراً أبداً، لكنّه يدفع بسلوكه هذا الجميع إلى تحمّل المسؤوليّة وتدارك الخطأ، والتواضع والشفافيّة مع الآخر ومع الذات.
6- نفطر على طعام الإخوة
كان خبيراً بنشر المحبّة، وبثّ النشاط في من يعمل معهم، خاصةً أنّه يعرف جهودهم ويرحم تعبهم. أذكر أنّه في شهر رمضان كان لدينا عمل أثناء النهار وامتدّ إلى وقت الإفطار، فقلنا له: "اذهب إلى البيت وأفطر"، وكان بيته قريباً جدّاً من مكان الاجتماع، فابتسم وقال: "بل نفطر مع الإخوة في المركز، وعلى الطعام الذي حضّره الإخوة، مضافاً إلى ما يمكن إحضاره من البيت". وبالفعل أفطر مع جميع الإخوة في المركز بمحبّة وسعادة، وهم من مستويات تنظيميّة مختلفة، قادة ومجاهدون، الجميع على سفرة واحدة مع رجل الظلّ.
7- الحرص على تفقّد الإخوة
أثناء حرب تمّوز 2006م، كان الشهيد يحرص بعد كلّ غارة على الضاحية على الاتّصال الهاتفيّ بالإخوة لتفقّدهم ومعرفة إن كانوا قد تعرّضوا إلى أذى أو إصابة، والأجمل أنّه على الرغم من صعوبة تلك الأيام وشدّتها، خصوصاً أوّل عشرين يوماً منها، كان يحرص خلال كلّ اتّصال على بثّ روح المرح، ورفع الروح المعنويّة لهم، وشكرهم والثناء عليهم.
لم يغب صاحب الظلّ، الذي أعار الله جمجمته، فكان مثالاً وأسوةً لعشرات، بل مئات من نمطه وعقيدته وسلوكه في أمّةٍ ولدت مثله.
1.تعليق ذكرته الصحفيّة الأميركيّة "روبن رايت" في كتابها: الغضب المقدّس، 1983م.