تحقيق: زهراء عودي شكر
في معرض البحث بين طيَات كتاب الزمان عن رموز العظمة والإباء، عن أشخاص مسكوا المجد
من أطرافه بتواضعهم ومحبّتهم ووعيهم المبكر للقضية، وحديثهم الرشيد الجذَّاب
ومهاراتهم الجهاديّة، تطايرت وريقات ذاك الكتاب لتستقرّ على صفحات نور دَوَّنت
بالدم القاني أسماء رجالات مقاومة أفذاذ، لامسهم شعاع المجد وعلا بهم إلى فضاءات
القيادة التي لم يسعوا إليها يوماً، بل هي التي سعت إليهم.
هم ثلاثيّ الجهاد والشهادة، هم راغب وعباس وعماد، هم قناديل بلادنا التي أشعلت
نيرانَ فتيلها مقاومةُ العزّ المتوهّجة بمشاعل كفاح مجاهديها، هم الغرسات الأولى
للمقاومة التي امتدّت أغصانها؛ ليتفيّأ العالم بظلال أمانها الوارف.
*قادة متواضعون
شاءت الإرادة الإلهيّة أن تكون العزّة لقادة المقاومة الإسلاميّة، الشيخ راغب حرب
والسيّد عبّاس الموسوي والحاج عماد مغنيّة، فرفعت شأنهم في الأرض كما في السماء،
وزرعت فيهم بذور إيمانٍ ومحبّةٍ وعطاء تفتّحت ياسمين عطّر العالم برائحة انتصارٍ
يأبى إلّا أن يرتبط بأسمائهم.
لم تكن بدايات المقاومة في ظلّهم هي التي أخرجتهم إلى النور، بل إنّ مسيرتهم
الحياتيّة المفعمة بالتواضع والمحبّة والذود عن المظلوم والاعتقاد العميق بالله
وبالقضية وصدرهم الرحب كما ذكاؤهم العلميّ والعمليّ، هي التي ميّزتهم ودفعت بهم إلى
القيادة التي لم يهتمّوا لها على الإطلاق إيماناً منهم، وعلى حدّ تعبير الحاج عماد،
"بعدم وجوب تمثيل الأشخاص للخط المقاوم".
*المقاومة هي المحور
ربما اختلفت الأدوار وتنوّعت الإنجازات ما بين القضايا السياسيّة والدينيّة
والاجتماعيّة والثقافيّة والوطنيّة. لكنّ المقاومة ظلّت محورهم العمليّ إدراكاً
منهم بأنّ لا خلاص لهذا الشعب من العتمة المسيطرة على وجوده إلّا من خلالها. ولعلّ
ما أخذ بيدهم في تلك المرحلة العصيبة هو أفكار الشهيد السيّد محمد باقر الصدر قدس
سره، وتوجيهات السيّد موسى الصدر، مضافاً إلى انتصار الثورة التي زرعت فيهم آمالاً
وتوجيهات وتكاليف من قائدها الإمام الخمينيّ قدس سره، فزياراتهم لإيران آنذاك لم
تؤسّس للمقاومة وحسب، بل شدّت أواصر اللُّحمة بين هؤلاء القادة الذين أسّسوا لعهد
جديد فتح للانتصارات أبواباً.
*الشيخ راغب حرب: خطب ناريَّة وانتفاضة
استطاع الشيخ راغب من خلال منبره الإعلاميّ الذي كان قد بناه في القرى الجنوبيّة،
ومن خلال صلاة الجمعة والقرب من الناس ومعايشة مشاكلهم، أن يخترق القلوب بعفوية
طبيعيّة، وأن ينشر الفكر الإسلاميّ ويكسر حواجز الخوف من العدوّ ويخلق روحاً ثوريّة
وجهاديّة في الناس الذين التفُّوا حوله. وقد لاقت جهوده ثمارها باندفاع الشباب
لمحاربة العدوّ الصهيونيّ عند اجتياحه للبنان عام 1982، حيث صعَّد الشيخ وتيرةَ
الصراع مع العدوّ، ولكن هذه المرة بالسلاح، فكان الأب الروحيّ للمجاهدين، يلتقي
معهم ويهتمّ لأحوالهم، ويوفّر لهم الدعم الماديّ والمعنويّ لاستمرار عملهم
العسكريّ.
يروي السيّد موسى فحص بعضَ المواقف والاستراتيجيّات التي اعتمدها رفيق دربه الشيخ
راغب لمناهضة العدوّ الصهيونيّ، ويشيد بدورها الأساس في تكوين الأرض الخصبة
للمقاومة، قائلاً: "تضمّنت خطبه يوم الجمعة وفي المناسبات ثقافةً ثوريّةً تحرريّةً
ان لها دور كبير في تعبئة النفوس وتهيئة الأجواء لمقاومة الاحتلال، وكانت تلاقي
تجاوباً تُرجم لاحقاً إلى مجموعة شبابيّة في الجنوب كان لها دور كبير في انتقال
الانتفاضات بين البلدات والمناطق". ويستكمل: "كان الشهيد الشيخ راغب يؤمّن
الأمكنة للمقاومين كما نقاط الانطلاق، ويباشر بنفسه تأمين السلاح ونقله وتخزينه
وتسليمه إليهم. كما كان يصرّ على معرفة تفاصيل أعمالهم، ويؤكّد عليهم ضرورة استهداف
الجنود والضبّاط الصهاينة دون التلهّي بالعملاء الذين اعتبرهم أكياس رمل لحماية
المحتلّ".
*السيّد عبّاس الموسوي: شعلةٌ ثوريّة متوهّجة
ديناميكيّة السيّد عبّاس وهمّته العالية، جعلته مكّوكاً علميّاً وعمليّاً
وجهاديّاً. فالتدريبات في سوريا، وتلقّي العلوم الحوزويّة، مروراً بمناصرة الأمّة
الإسلاميّة المظلومة أينما كان، والتكفّل بالتعليم الدينيّ ونشر مبادئ الثورة
الإسلاميّة، واحتضان الحرس الثوريّ، ووعي آلام الناس وتحسُّس مشاكلهم، وصولاً إلى
تعبئة الشباب ضدّ الكيان الصهيونيّ والاطمئنان على سير تدريباتهم وعمليّاتهم
العسكريّة، جعلت السيّد يخترق المكان كما الزمان، وينجح في تحويل حالته الثوريّة
إلى عقيدة إيمانيّة جهاديّة شاملة اختُصرت بشعار "مقاومة"، احتضنت حروفه قافلة جهاد
نذر أفرادها أنفسهم لله وللقضية، فباسمِ الله انطلقوا، وبرعاية السيد شبّوا.
وتأكيداً على ذلك، يعود الشيخ عزّت حيدر، صديق السيّد، بالذاكرة الى أيّام الحوزة
في بعلبك، وبالتحديد إلى حادثة قصف طيران التحالف لثكنة الشيخ عبد الله في بعلبك
قائلاً: "ترك الكثير من الطلّاب الحوزة باستثناء مجموعتنا التي كان يدرّسها السيّد
عبّاس. ولمّا انتشرت البلبلة والخوف وسطها سارع السيّد إلى استدعائنا مؤكّداً أنّ
هذا الأمر لا يجب أن يحصل، بل يجب أن نبقى لنثبّت قاعدة أساسية هي أنّ رجال الدين
القدوة لا يهربون، وعلى فرض قصفنا، فهل هناك أحلى من أن تختلط دماؤنا ببعضها بعضاً
ونستشهد؟". وهكذا شكّلت الحوزة المنطلق الرئيسيّ لحركة المقاومة.
وفي طيردبّا وقفة أخرى للسيّد يذكرها الشيخ عزّت: "بعد الاجتياح نقل السيّد دائرة
عمله إلى الجنوب، ليكون على مقربة من شباب المقاومة، وليشدّ عزمهم. ووقتها استشهد
المجاهد حيدر خليل قتلاً على أحد الحواجز، فساد الذعر والسكينة، وهنا ما كان من
السيّد عبّاس إلّا أن طلب منّا أن نجمع الإخوان، وقام بشرح خطورة الموقف لهم وحثّهم
على الردّ كي لا يتكرّر الأمر، فكان له ما طلب؛ إذ قاموا بعدها بالثأر، وبذلك كسروا
حواجز الخوف الذي سكن القلوب".
*الحاج عماد مغنية: أكاديميَّة عسكريّة خرّجت كوادر
للحاج عماد رواية أخرى مع المقاومة، تبدأ أولى فصولها أيّام الحرب الأهليّة
اللبنانيّة عام 1975 حين تسنّى للفتى فرصة الاختلاط بمقاتلي الحركة الوطنيّة
والفصائل الفلسطينيّة وتلقّي التدريبات منهم، وتستكمل بحضوره العسكريّ على الأرض
لمهاجهة الزحف الصهيونيّ، ومشاركته في تشكيل النواة الأولى للمقاومة الإسلاميّة.
ولعلّ تلقّي التدريبات من الفصائل الفلسطينيّة ولاحقاً من الحرس الثوريّ، وعمليّاته
الأولى في بيروت ومثلّث خلدة، وفي مقرّ المارينز وعلى أرض الجنوب، راكمت خبرات
وميزات في ذاك العماد، نقشها في نفوس رفاق السلاح وتلامذة الجهاد، فكانت له علامة
فارقة في السجلّ التأسيسيّ لمدرسة المقاومة التي زخرت برجاحة عقله التدبيريّ
والتخطيطيّ والتنفيذيّ والهندسيّ كما الأمنيّ.
وقوفاً عند هذه النقطة التأسيسيّة المهمّة لحركة الجهاد المقاوم فيما يتعلّق بالحاج
عماد، كان لنا قراءة لكتاب "صور طبق الأصل"، الذي يوثّق بعضاً من حكايا حياته
المشرّفة، يسردها الأهل ورفاق الدرب والقضيّة.
يقول مدير مركز أمان الأستاذ أنيس النقّاش: "أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة،
تقدّم الى أحد مكاتب الثورة الفلسطينيّة شابّ وهو "عماد مغنية"، وكنت عضواً في حركة
فتح، وعرّف عن نفسه بأنه عضوٌ في مجموعة مؤمنة وهم بحاجة إلى التدرّب على السلاح
لأنهم مقتنعون بالجهاد من أجل فلسطين... ولاحقاً تقرّرت إقامة معسكر في الدامور
لتدريب مجموعات لبنانيّة كانت من بينها مجموعته".
وعلى حدّ تعبير الرفاق، "شكّلت الثورة الإسلامية محطّة مهمّة في حياة الحاجّ،
وصار الإمام الخمينيّ قدس سره قبلتَه كما كلّ ثائر؛ فراح ينهل من أفكاره ويتداولها
مع أقرانه، ليحذوا حذوها في جهادهم. ومحبّةً بالإمام، قام الحاجّ عماد ببادرة جديدة
وقتها، حيث طبع صورة الإمام قدس سره على قمصان قطنيّة، وكان أوّل من ارتداها".
أثار حديث الحاجّ وخطابه، خلال المناسبات، الحماسة الثوريّة عند الشباب، ولاقى
إعجاب الكثيرين. وهذا ما أكّده الشيخ عبد المجيد عمّار الذي استذكر مراسم تشييع
"الشهيد حسن عزّ الدين" قائلاً: "ألقى الحاجّ عماد وقتها كلمة باسم رفاقه، مليئة
بالحماسة والتحدّي، لاقت وقعاً إيجابيّاً لدى الحاضرين". فمن هنا وهناك بدأ
الاستقطاب لجيل المقاومة الأوّل الذي كان هو من مؤسّسيه. ويشير الأستاذ إبراهيم
الأمين رئيس مجلس إدارة جريدة الأخبار إلى ذلك قائلاً: "عندما غادرت فصائل الثورة
الفلسطينيّة بيروت، تسنّى للحاجّ عماد معرفة مخازن أسلحة كثيرة. يومها، كوّن الحاجّ
عماد مع رفاقه النواة الأولى لما بات يعرف لاحقاً بالمقاومة الإسلاميّة، التي ألّفت
مجموعات للمقاومة في بيروت والبقاع الغربيّ والجنوب، وبدأوا بشنّ سلسلة عمليّات على
دوريّات العدوّ، ونصب الكمائن وقنص الجنود وقصف التجمّعات بالصواريخ... إلى أن كانت
باكورة العمليّات النوعيّة للمقاومة الإسلاميّة بتاريخ 11/11/1982 حيث دُمّرَ مقرّ
الحاكم العسكريّ في مدينة صور في جنوب لبنان في عمليّة للاستشهادي أحمد قصير".
*صنّاع النصر
مشى الشيخ راغب بخطواتٍ واثقة على تراب الجنوب، ونجح بعفويّة خطابه الثوريّ في دحض
مقولة "العين لا تقاوم المخرز"، وأعطى الإشارة لبدء المعركة العسكريّة، فبات الخطيب
والقائد. وبقامة منتصبة أكمل السيّد عبّاس طريق الجهاد، فاحتضن شباب المقاومة
وغذّاهم بروح الثورة، وزرع فيهم خطابه الشهير "اقتلونا فإنّ شعبنا سيعي أكثر
فأكثر"، وبهذا صار السيّد المعلّم والقائد.
أمّا الحاجّ عماد فانطلق بظلّه الخفيف في مقدّمة المجاهدين والشهداء الذين
أرّخوا للانتصارات، فكان الأخ الحنون لهم والراعي الرسميّ لعملياتهم، فنال وسام
القيادة مرّتين: مرّة في حياته وأخرى في شهادته، فكان قائد الانتصارين.