السيّد علي فحص
لقد أكد الإسلام تأكيداً كبيراً وملفتاً على الصفات الفردية والخصال الشخصية للإنسان المؤمن المقاوم والمجاهد، قبل شروع الحرب والمواجهة مع العدو الظالم والمستكبر، وأثناء المعركة والمواجهة، واعتبرها أساسية ومهمة جداً في الثبات وتحصيل التأييد الإلهي والرعاية الربانية وتحقيق النصر والغلبة. ومن الثابت والمؤكد أن لصفات الأفراد وخصالهم الحميدة والطيبة ولصفاء قلوبهم ولعبادتهم وارتباطهم باللّه تبارك وتعالى أثراً لا يقف عند الفرد نفسه بل يطال المجتمع والأمة وله ربط وثيق بمسار ومستقبل جيل وأمة وحضارة بكاملها...
ولهذا ركّز الإسلام على ضرورة حيازة الشروط الأساسية التي تجعل الإنسان محط عناية اللّه تبارك وتعالى وأهلاً لأن يمن عليه بالدعم والتأييد والتسديد ويمدّه بالقوة وينزل عليه الغلبة والنصر. من هنا تأتي أهمية أن يسعى المقاومون والمجاهدون وكل واحد منا في أي موقع من مواقع العمل والجهاد كان لتحصيل هذه الشروط بأعلى مستوياتها وأن تبقى حاضرة دائماً في قلبه وعقله وسلوكه وكل كيانه، خاصة في حالات الحرب والمواجهة، حالات الشّدة والتمحيص والابتلاء. لذلك يكتسب الحديث عن هذه الشروط قيمة وأهمية خاصة لأننا نحتاج إلى معرفتها بدقة من أجل أن نحوّلها إلى ملكات راسخة في نفوسنا وعقولنا وقلوبنا وسلوكنا اليومي لنرتفع بها درجاتٍ نحو الحق تبارك وتعالى، ولنكون محطَّ عنايته ورعايته ومن أبرز هذه الشروط:
* على المستوى الروحي:
1- تربية النفس وتهذيبها:
وهذا شرط أساسي ومهم لينظر اللّه إلينا ولنستحق عنايته ونصره حيث أن اللَّه تعالى لا يمكن أن ينزل النصر والتأييد على قوم نفوسهم ملوثة بالذنوب والمعاصي وقلوبهم غافلة عنه لأنهم لا يستحقون ذلك ولهذا نجد أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله قد أولى هذا الجانب اهتماماً كبيراً وبيّنه بأجلى صوره وأبهاها عندما استقبل السرية العائدة من الجهاد والقتال ليقول لهم: "مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وقد بقي عليهم الجهاد الأكبر". وسألوا النبي صلى الله عليه وآله مستغربين من تسمية القتال الذي خاضوه جهاداً أصغر، إذاً ما هو الجهاد الأكبر فقال صلى الله عليه وآله: جهاد النفس وقال : "أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه". نعم جهاد النفس هو الجهاد الأكبر لأنه يعطي القيمة للقتال ضد العدو ويحوّله إلى جهاد يتقرب به العبد نحو اللّه، وجهاد النفس "جهاد أكبر" لأنه الصراع القوي المحتدم داخل النفس البشرية وبين قواها سواء الظاهرية والباطنية وهو بحاجة إلى عناية فائقة ودقَّة لتتمكن من إيصال النفس بكل قواها المتعددة لتصبح على حد تعبير الإمام الخميني قدس سره عقلانية وشرعية وبالتالي ربانية عاملة بكل ما جاءت به الشريعة السمحاء متقيدة بالطاعة بكل مفرداتها وعناوينها مبتعدة عن الحرام بكل تلاوينه وأشكاله محبوبة عند الخالق الرحيم تبارك وتعالى يجدها حيث يحب ويفتقدها حيث يبغض ويكره؛ والوصول إلى تحقيق هذا الشرط يمثل انتصاراً بحد ذاته يؤهلك للانتصار في الساحات والميادين الأخرى عندما تحارب أو تواجه عدواً غاصباً. وهذا ما نفهمه مما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ميدانكم الأول أنفسكم إن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز". وهذا يحتاج إلى عزم وإرادة وسعي حثيث وتهيؤ وتمرس. للوصول إلى هذا المستوى الذي نستشعر فيه بالعبودية والخضوع الكامل والتسليم المطلق للحق سبحانه وتعالى.
2- وضع برامج عبادية:
أن يضع المجاهد برنامجاً عبادياً يلتزم به في مختلف حالاته وليس فقط في ساعة الشدة وعند حصول الحرب والمعركة بدءً من القيام بالفرائض على أكمل وجه وأفضل صورة وصولاً إلى التقرب إلى اللّه تعالى بالنوافل مثل صلاة الليل، الدعاء الذي هو سلاح المؤمن، تلاوة القران الكريم وغيرها من عبادات يقوم بها المجاهد بينه وبين ربه تعالى حيث يكون قلبه متوجهاً قد أفرغه من كل ما سوى اللّه تعالى وطهّره ليكون بيتاً للّه تعالى، وقد ورد في الحديث القدسي الشريف "... ما تقرب إلي أحد بمثل ما تقرب بالفرائض، وأنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها". وهذا المستوى من الحب والعشق والتعلق بالحق تبارك وتعالى يوصل الإنسان المجاهد إلى مرحلة يصبح فيها التواصل أمراً عادياً لأنه لا يرى في هذا الوجود قوة يمكن أن يعتمد عليها أو تملأ كيانه غير القوة الحقيقية المطلقة للباري تعالى وهكذا تتولد القوة الفعلية وينشأ الاطمئنان وبالتالي يطرد الخوف لتحل الشجاعة والإقدام والعزيمة لأن المجاهد يرى ما لا يراه الناس من خلال هذه الروحية العالية والنفس المطمئنة والبصيرة الثابتة والقلب الطاهر. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ..﴾
3- الإخلاص للَّه تعالى:
من أبرز الشروط لتحصيل النصر الإخلاص للّه تعالى، فكل ما تقدّم وكل عمل نقوم به يحتاج إلى الإخلاص للّه تعالى وهو أساس وروح لكل الفضائل والقيم والعبادات والأعمال. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا السياق: "إن حقيقة الإخلاص هي تصفية العمل من مشاهدة غير اللّه تعالى وتصفية السر من رؤية غير الحق تعالى وذلك في جميع الأعمال الصورية واللُّبية والظاهرية والباطنية"... قال تعالى: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ...﴾ فالإخلاص هو أهم شرط لقبول الأعمال والعبادات وغيرها من اللّه تعالى. ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: "قال اللّه عز وجل: إني لا أطَّلع على قلب عبد فأعلم منه حب الإخلاص لطاعتي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته"، ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "وأدنى حد الإخلاص بذل العبد طاقته ثم لا يجعل لعمله عند اللّه قدراً فيوجب به على ربه مكافأة لعمله". هذا فضلاً عن أن نخلص العمل من أخطر شائبة وهي الرياء أو العجب بأعمالنا وأنفسنا وأي شيء يصدر عنا، إذاً فلتبق أعيننا بعين اللّه تعالى وقلوبنا نظيفة وخالصة للحق تعالى. هذا الإعداد المطلوب في الجانب الروحي والعبادي في دائرة الإصلاح ما بيننا وبين اللّه تعالى لنكون أهلاً ومحلاً لنزول العون والمدد والنصر الإلهي قال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
4- طاعة القائد:
وهي من الشروط التي يجب أن يعوّد المجاهد المقاوم نفسه عليها سواء في ساحات الحرب والمواجهة أم في غيرها، قال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾. إذا كانت الآية تؤكد على ضرورة طاعة الرسول صلى الله عليه وآله والإمام المعصوم عليه السلام في مختلف ميادين الحياة فطبيعي جداً أن تكون الطاعة مطلوبة أكثر في حالة الجهاد والقتال والحرب والدرس الذي تعلّمه المسلمون في أُحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وآله عدداً من الجنود بعدم مغادرة أماكنهم مهما كانت الظروف وكانت تميل الأمور باتجاه النصر، ولكنهم عندما خالفوا قول النبي صلى الله عليه وآله وأمره بالبقاء تحوّل النصر إلى هزيمة، وهذا درس مهم يحكم العقل الفطري السليم بضرورته وبه يحفظ النظام وهكذا جاءت الأدلة الشرعية لتحدثنا عن ضرورة طاعة الولي الفقيه بوصفه القائد للأمة المفترض الطاعة وإن مخالفته ومعصيته تورد الأمة المهالك والتجربة العملية دلت على ذلك. وما انتصار مجاهدي المقاومة في لبنان الذين تحرَّكوا في خط طاعة اللّه ورسوله وأهل البيت عليهم السلام والولي الفقيه إلا أول دليل على ضرورة طاعة القائد والعمل بتوجيهاته المنطلقة من إخلاصه وحكمته وحرصه على الأمة ومصلحتها وعزتها وكرامتها.
5- الإلفة والوحدة:
ومن الشروط والعوامل الأساسية لتحقيق النصر، الألفة والوحدة وعدم الخلاف بين المجاهدين التي يجب أن تحكم علاقتهم سواء كانوا على جبهة القتال وفي ساحة المواجهة أو كانوا في أي موقع آخر من مواقع الحياة والعمل. يقول تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...﴾. وهذا يعني أن الألفة والوحدة بين المؤمنين ونفي الخلاف والفرقة هو مطلب شرعي وإسلامي يؤدي الالتزام به إلى نزول النصر الإلهي وعكسه يعني الهزيمة والذل والهوان. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...﴾ ويقول تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. نلاحظ أن الحق تعالى اعتبر أن أحد تأييدات اللّه تعالى لنبيه ا هي في المؤمنين الذين ألّف بين قلوبهم وأن الألفة بين المؤمنين هي نعمة إلهية كبرى يجب المحافظة عليها وترسيخها بين المجاهدين وفي بيئتهم. وهذا ينسحب على ضرورة إقامة علاقات طيبة بين المجاهدين وبين الناس في محيطهم وأن يملأ قلب المجاهد الرحمة والرأفة اتجاه هؤلاء، لأن الذي ينظر إلى الناس بعين الرحمة والرأفة ينظر إليه اللّه تعالى نظرة رحيمة رؤوفة فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: "من لا يرحم لا يُرحم".
* بعد الإعداد الروحي
وبعد الانتهاء من إصلاح ما بيننا وبين الناس حبل من اللّه وحبل من الناس، تأتي ضرورة الإعداد الجسدي والعسكري للمعركة سواء على مستوى التدرب والتعلم على فنون القتال المختلفة والمتنوعة، ومواكبة كل حديث وجديد قال تعالى : ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ..﴾ وأخيراً مع الاعتناء بكل هذه الشروط وتحصيلها يكون المجاهد قد صنع ليس لنفسه بل لأمته نصراً عزيزاً لأنه كان محط عناية اللّه ورعايته يقول الإمام الباقر عليه السلام: "إن اللّه ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء".. ويقول عليه السلام: "إن اللّه تعالى أعطى المؤمن ثلاث خصال: العز في الدنيا وفي دينه و... والمهابة في صدور العالمين". قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.