الشيخ محمد حسن زراقط(*)
إن موقف الأديان من القداسة يختلف من دين إلى دين ففي، المسيحية تمثّل القداسة صفة دينية أشبه ما تكون بمنصب أو منزلة تعطيها الكنيسة ضمن شروط خاصة ومواصفات محددة لبعض الأشخاص، وتعطى هذه الصفة لهؤلاء الأشخاص تقديراً لتضحياتهم في الحياة كأولئك الذين يقتلون من أجل إيمانهم الديني أو للقساوسة والرهبان الذين تنسب إليهم بعض الكرامات بعد وفاتهم. وأما في الإسلام فإن معنى القداسة يختلف إلى حد كبير عن هذا المعنى الموجود في الديانة المسيحية وربما في غيرها من الأديان، ففي الإسلام يمكن تقسيم القداسة إلى أنواع:
أ- قداسة ذاتية: وهي القداسة التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، فليست قداسته منحة من أحد، ولكنها حاصل مجموع صفاته الذاتية التي يتصف بها. فإننا عند النظر في صفات الله بحسب العقيدة الإسلامية نجد أنها تنقسم إلى قسمين: صفات تسمى صفات الجمال، وهي الصفات الحسنة الثابتة له سبحانه. وصفات الجلال وهي الصفات القبيحة التي تُنفى عنه، مثل الظلم وما شابهه من الصفات التي لا وجود لها في ذات الله. وبناءاً على هذا التصور تكون القداسة هي حاصل هذه الصفات بنوعيها، وليست موقفاً تابعاً في وجوده لافتراض الإنسان أو عدم افتراضه، فلو لم يكن الإنسان موجوداً كان الله منزهاً عن كل صفة سيئة لا تتناسب مع علو شأنه وسمو مقامه. ومن هذا الباب مع شيء من الاختلاف القداسة الثابتة للإنسان فإنه رغم كونه مخلوقاً لله فإن الله سبحانه تعلقت إرادته بخلقه محترماً مكرماً: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، وكذلك من خلال جعله خليفة له في الأرض كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30). والفرق بين هذا النوع من القداسة والنوع الأول أن قداسة الله لا تزول عنه ولا تنفك، بينما قداسة الإنسان قد تزول بإرادته واختياره عندما يتنكب عن الصراط الذي اختطه الله له، وذلك بالخروج من مقام العبودية لله إلى عبودية غيره من صنم أو شهوة تزلّ بها قدمه فيحيد عن الهدف الذي لأجله خلق.
ب- قداسة مكتسبة: وهي القداسة التي يكتسبها الإنسان نتيجة عمل جليل يقوم به أو خدمة يؤديها لخلق الله، وهذه القداسة المكتسبة تضاف إلى الرصيد الأصلي الذي هو حاصل تكريم الله لخليفته. ولا يقتصر هذا النوع من القداسة على الإنسان، بل يشمل الأمكنة والأشياء بعد ارتباطه بأمر جليل له حظ من القداسة والاحترام. ومثال ذلك الورق فإنه شيء كسائر الأشياء، ولكن عندما يكتب عليه كلام الله سبحانه فيصبح مصحفاً يكتسب قداسة وتترتب عليه أحكام خاصة؛ وكذلك المكان فإن بقاع الأرض في الأصل لا فرق بينها كلها مخلوقة لله لا فضل لمكان منها على مكان، ولكن بعد أن يرتبط بعض الأمكنة بعمل جليل كأن يكون محلاً لعبادة الله فيكتسب قداسة واحتراماً من كونه محلاًّ لربط الإنسان بالله كما في المساجد مثلاً. وفي الحالتين يبدو الفرق واضحاً بين التصور الإسلامي للمقدس والقداسة وبين التصور المشار إليه قبل قليل، فليست القداسة في التصور الإسلامي منحة ومقاماً يعطى دون مبرر، بل هي قداسة تابعة لصفات واقعية في الأشخاص أو الأشياء، وإذا أخذنا النبي محمداً صلى الله عليه وآله كمثال لأقدس من خلق الله وحلّلنا أسباب قداسته، لوجدنا أن قداسته تابعة لصفات موجودة فيه، فهو منزه ومقدس وما يترتب علينا هو احترام هذه القداسة والتعاطي معها بما هي أهل له، وهذه الصفات هي:
1- العصمة:
وهي ترك كل أشكال المعصية لله، وممارسة أعلى درجات الطاعة، والوصول إلى أرقى مقام العبودية حتى صار هو أبرز من يستحق الشهادة له بالعبودية قبل الرسالة، حيث يقول المسلم في كل صلاة "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" ولا تخفى أهمية تقديم الشهادة بالعبودية على الشهادة بالرسالة. وأهم ما في عصمة النبي صلى الله عليه وآله وغيره من الأنبياء هو كونها عصمة اختيارية بمعنى أن النبي بالرغم من قدرته على المعصية لا يقدم عليها ولا يختارها.
2- الدور والمهمة:
مهمة النبوة التي يؤديها النبي بالرغم من كونها شرفاً عظيماً لا يصل إليه إلا من امتحن الله قلبه واطلع على ماضيه وحاضره ومستقبله، بالرغم من هذا كله إلا أنها في الوقت عينه تمثل مسؤولية عظيمة لا يقوى على حملها إلا الرجال الرجال، ممن أسلم لله كيانه ووقف نفسه على خدمة الناس والسعي لهدايتهم وأبرز كل استعداد لتحمل الصعاب ومقاومة كل إغراءات الدنيا، بما فيها، وفضل طاعة الله ورضاه على طاعة المخلوقين وطاعة هوى النفس. وإن النظر في تاريخ الأنبياء وسيرهم يدل على السمة الأبرز للشخصية النبوية عبر التاريخ، ويكشف التأمل في هذه السير أنها تستحق أن تكتب بحروف من نور لأنها كتبت قبل ذلك بلغة المعاناة وتحمل الصعاب في سبيل الهدف الأسمى، والقيام بأعباء الواجب. وفي هذا المجال يظهر أن واحدة من أسباب التفاضل بين الأنبياء هو مقدار ما يتحمل أحدهم في جنب الله وفي سبيل تحقيق أهداف الرسالة التي حملها وأداها بأمانة، ومن أوضح مصاديق هذا المعنى ما خطه التاريخ عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله حيث يشهد لنفسه وهو الصادق الأمين حيث يقول كما يروى عنه: "ما أوذي نبي كما أوذيت".
*سر قداسة النبي محمد صلى الله عليه وآله:
بعد هذا العرض السريع والموجز لغيض من فيض أسباب القداسة النبوية، يثبت أن قداسة الأنبياء جميعاً ولا سيما نبينا محمداً صلى الله عليه وآله ليست منحة أو منّة من المؤمنين به أو من المعجبين بشخصه وسيرته، بل هي قداسة لذاته وشخصه تبعاً لما يتمتع به من محامد الخصال قبل أو مع ما هو ثابت له من منزلة في عالم الغيب. ومن هنا يكون كل احترام يظهره أحد من الناس لهذا الشخص واجباً يؤديه بمقتضى الإنسانية والدين على حد سواء. وهذا يلزم حتى غير المؤمنين به، لأن القيم التي تعطيه القداسة ليست قيماً إسلامية، بل هي قيم إنسانية لا تستقيم حياة الإنسانية إلا بها، وهذه القيم التي رصّعت صفحات سيرته الغراء كثيرة، منها ما أشرنا إليه؛ فإن قيمة الالتزام بالواجب والبعد عن القبيح قيمة إنسانية عليا هي التي تؤدي إلى العصمة، وكذلك قيمة أداء الأمانة والإخلاص للهدف. وهل تحتاج الإنسانية في عصرنا كما في كل عصر إلا إلى تجسيد هذه القيم؟ فإن لم تستطع البشرية تجسيدها بالكامل في عصر من العصور فإن أقل الواجب يدعوها إلى احترام من جسدها أروع تجسيد حتى لو اختلفت معه وفيه. واحترام النبي صلى الله عليه وآله وأداء حق قداسته له معنيان أحدهما الاحترام والتقدير، وهذا قد أداه المسلمون إلى حد كبير فلا تجد أمة من الأمم تحترم ذكرى عظيم من عظمائها كما تحترم الأمة الإسلامية أعظم عظمائها محمد صلى الله عليه وآله، وذلك من خلال الاهتمام بكل ما يمت إلى شخصه الكريم بصلة من حفظ سنته وتفاصيل سيرته وأقواله وما أثر عنه من قول وفعل، بل واحترام ما يرتبط به إنساناً كان أم غيره، وذلك كاحترام ذريته ومن ينتسب إليه بصلة النسب، واحترام ما يرتبط به كقبره الشريف وغير ذلك. والنوع الثاني من أنواع الاحترام الذي تطالب الأمة به هي حفظ رسالته وتحقيق الأهداف التي كان يسعى لتحقيقها، وعلى رأسها قيمة العدالة والمساواة بين المتساوين من الناس كما في الحديث المأثور عنه: "يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم. وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى".
(*) مدير تحرير مجلّة الحياة الطيبة.
نيجيريا
مصباح إبراهيم
2021-03-15 23:05:33
أحسنتم فجزاكم الله أحسن الجزاء