مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أثر القرآن الكريم في النفس والمجتمعات الإنسانية

الشيخ عباس رشيد

 



إن نظرة إلى التاريخ الإنساني، بما يحويه من محطات انحطاط وتقدّم، تؤيد القول بأنه لم يكن لأي كتاب ما كان للقرآن العظيم من أثر على النفس الإنسانية وبالتالي على المجتمعات الإنسانية والحياة البشرية. ولهذا نرى أن القرآن الكريم أصبح مادّة للبحث يستفيد منه علماء الإجتماع والنفس.

*تأثير القرآن على النفوس‏
وإنك لترى مدى تأثير القرآن على النفس الإنسانية من خلال ما يحدّثنا التاريخ عن بعض معاندي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حينما سمعوا بآياته المعجزة، فقد هزّهم القرآن هزاً، وهم القساة المعاندون.

*قصة عتبة بن ربيعة
فيروي لنا التاريخ، أنه حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأت قريش أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، قام عتبة بن ربيعة يوماً في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وآله حينها جالس في المسجد وحده، وقال: "يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً، لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكفّ عنّا؟ فقالوا: "بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه". فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: "يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السّطّة(1) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني: أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها". فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: "قل يا أبا الوليد، أسمع". فاقترح عليه أموراً، فلما فرغ عتبة من كلامه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟"، قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل. فقال صلى الله عليه وآله: (بسم الله الرحمن الرحيم) ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ...(2) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله فيها يقرؤها عليه، و"عتبة" منصت لها، ملقياً يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما، مذهولاً، إلى أن انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى آية السجدة من سورة فصلت، فسجد صلى الله عليه وآله ثم قال صلى الله عليه وآله: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: "نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. ثم قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم(3). وإن لم يقبل رجالات قريش من أبي الوليد طرحه، ولم يذعنوا لتأثير القرآن، لموانع في قلوبهم، فإن نفوساً كثيرة خضعت للقرآن الكريم، ويدل على ذلك ما نسرده عليك من تاريخ دخول الخزرجيين في الإسلام.

*تأثير القرآن على المجتمع‏
إذا خرجنا من الصعيد الفردي إلى الصعيد الاجتماعي العام، نرى بوضوح مدى تأثير القرآن على المجتمع الإنساني. فانظر كيف كان العرب قبل القرآن، ثم أنظر كيف أصبحوا بعد مجي‏ء القرآن المجيد!

*العرب قبل القرآن‏
يحاول فريق من الكتّاب القدامى والمحدثين أن يصوّروا العرب قبل الإسلام وكأنهم بناء أصيب بزلزال شديد من أساسه فإذا كلّ شي‏ء فيه غير قائم في محله، وأصبح الذئب راعياً، والجائر قاضياً، والمجرم سعيداً، والصالح محروماً والعادات تتحكّم في مصيرهم وتجرّهم إلى الفناء والدمار. قد تمادى إنسان ذلك العصر الجاهلي في الفجور والطغيان، إلى الاستهتار بالقيم ومحاربة الفضيلة، وتعاطي استعمال الرّبا إلى حدود الاغتصاب والسّلب، واستحوذ عليه الطمع إلى حد الجشع والنهم، وبلغت به القسوة إلى حدود وأد البنات وقتل الأولاد. ومضى هؤلاء في تجريد العرب (قبل القرآن) عن جميع القيم وحتى عن إنسانيتهم، فقالوا لقد تباهى العربي بالشجاعة والجود والأنفة وافتخر بذلك على من سواه من أبناء الأمم الواقعة على حدود منطقته، وبرزت هذه الصفات في حياة الإنسان العربي، ولكنه بعد أن أساء استعمالها في المكان غير المناسب، عادت وبالاً عليه، فتحولت شجاعته إلى الفتك بالأبرياء، وجوده إلى إسراف وتبذير وأنفته إلى حميّة جاهلية، فكانت الحروب الدامية والغارات والقتل. ولكن صاحب سيرة المصطفى يقول: إن هذا التوصيف للعرب مبالغ فيه "ذلك لأن الباحث في تاريخهم (العرب) لا يجد أكثر من بعض الفوارق بينهم وبين غيرهم من الأمم كالفرس والرومان وغيرهما..."(4).

*العرب بعد القرآن‏
على كل حال، إن حال العرب قبل الإسلام كان متردياً، ولكن العرب قد تغيّروا، وانقلبوا رأساً على عقب، أخلاقهم تغيّرت، روحيّتهم تغيّرت، عقولهم تغيّرت، كل كيانهم تغيّر، كانوا محكومين ضعفاء، أصبحوا حاكمين أقوياء، كانوا تابعين أصبحوا متبوعين. ما هو سرّ تغيّرهم وانقلابهم وصحوتهم؟ إنه القرآن العظيم ببلاغته وفصاحته وإعجازه، قلبهم انقلاباً رائعاً، في فترة زمنية وجيزة، أدهشت علماء الغرب المنصفين. يقول ول ديورانت المؤرخ المعروف عن قوة العرب وزعامتهم للعالم بعد مجي‏ء الإسلام والقرآن: "لقد ظلّ الإسلام خمسة قرون من عام 700م إلى عام 1200م (81ه 597ه) يتزعّم العالم كله في القوة والنظام، وبسطة الملك وجميل الطباع والأخلاق وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب والفلسفة"(5). ويقول غوستاف لوبون: "يرى البعض (من الأوروبيين) أن من العار الاعتراف بأن أمّة كافرة ملحدة (أي العرب المسلمين!) قد سببّت خلاص أوروبا المسيحية من حالة التوحش والجهالة. ولذا فهم يخفون ذلك، ولكن هذا التصوّر هو من الخواء والسخف بحيث يمكن ردّه بكل سهولة... إن النفوذ الأخلاقي لهؤلاء العرب الذين ولدهم الإسلام قد أدخل الأمم الوحشية الأوروبية التي حطمت الدولة الرومية في سبيل الإنسانية، وكذلك فإن النفوذ العقلاني لهم فتح بوابات العلوم والفنون والفلسفة التي كنّا بعيدين عنها. وكانوا أساتذتنا نحن الأوروبيين خلال ستمائة سنة"(6).

يقول ول ديورانت: "ما من قانون أخلاقي يمكن أن يفعل في النفوس وأن يطاع طاعة تكفل للمجتمع النظام والقوة إلا إذا آمن الناس أنه منزل من عند الله... وقد ظلّ (القرآن) أربعة عشر قرناً من الزمن محفوظاً في ذاكرتهم، يستثير خيالهم، ويشكّل أخلاقهم، ويشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال. والقرآن يبعث في النفوس الساذجة (لعل مراده الفطرية) أسهل العقائد، وأقلها غموضاً، وأبعدها عن التقيّد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحرراً من الوثنية والكهنوتية. وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعي، والوحدة الاجتماعية، وحضّهم على إتباع القواعد الصحيّة، وحرّر عقولهم من كثير من الخرافات والأوهام، ومن الظلم والقسوة، وحسّن أحوال الأرقاء، وبعث في نفوس الأذلاّء الكرامة والعزّة، وأوجد بين المسلمين إذا استثنينا ما كان يقترفه بعض الخلفاء المتأخرين درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أيّة بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض. ولقد علّم (القرآن) الناس أن يواجهوا صعاب الحياة، ويتحملوا قيودها، بلا شكوى ولا ملل"(7). والسؤال المطروح هنا، إذا كان القرآن الكريم له هذا التأثير، فلماذا إذاً المجتمع الإسلامي الحالي ليس على ما يرام؟ وللإجابة على هذا السؤال مجالٌ آخر.
 


(1) السطّة: الشرف.
(2) الآيات من أوائل سورة فصّلت.
(3) السيرة النبوية، لإبن هشام، ج‏1، ص‏293.
(4) سيرة المصطفى، هاشم معروف الحسني، ص‏14.
(5) قصة الحضارة، ول ديوارنت، ج‏13، ص‏382.
(6) الإنسان والقضاء والقدر، الشهيد مرتضى مطهري، ص‏10.
(7) قصة الحضارة، ول ديوارنت، مج‏13 14، ج‏13، ص‏68.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع