الدكتور سامر شرّي
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. هذا الحديث يعد واحداً من مئات الأحاديث التي اختصت بعلي عليه السلام عن الأمة كافة، والذي يعتبر أيضاً من أهم الأحاديث التي دلت على بعض مقامات أمير المؤمنين، وأهم المضامين الحساسة المتعلقة بالإمامة والخلافة والصفات العالية له ومكانته منها. هذا الحديث الذي ذكره الفريقان، يحتاج إلى محاولة لتشريح مضمونه من خلال عرضه على القرآن لمعرفة مقام ودور ومكانة هارون من موسى ومدى انطباقها على عليّ عليه السلام ومنزلته من النبي صلى الله عليه وآله. بالرجوع إلى القرآن واستعراض آياته يتبين لنا حجم التطابق في المنزلة والأدوار والصفات بين الشخصية النبوية لهارون والشخصية الإمامية لعلي. لذا سنحاول ذكر بعض عناوينها وفق الآتي:
1- منزلة الوزارة: وهي المنزلة التي صرّح اللَّه سبحانه وتعالى عنها في قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ (طه: 29، 30)، وفي قوله تعالى: ﴿َلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا﴾ (الفرقان: 35). هذه الآيات تؤكد منصب الوزارة لهارون. إذ أنه لمّا غاب موسى عليه السلام للقاء ربه في الميقات، قام هارون مقام أخيه طيلة فترة الغيبة، فهو القائم على شؤون الأمة، والهادي والحاكم والفاصل بين الناس والحامل للكتاب والمنفذ له والعامل به تماماً كأخيه موسى إلى حين عودته، مع الإشارة إلى أن الوزارة هي في مقام الهيئة التنفيذية، والوزير منفذ لسياسة سيده لا يخرج عنها. هذا المقام ينطبق بدوره على علي عليه السلام، فيكون لعلي ما لرسول اللَّه في الحكم في حال غيبته، وقد ذكرت روايات كثيرة من الفريقين اختصاص الوزارة بعلي عليه السلام دون الأمة. روى ابن عساكر في تاريخه ج42، ص:56-57 عن سلمان أن النبي قال: إن أخي ووزيري وخليفتي في أهل بيتي وخير من تركت بعدي، يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب.
2- منزلة الأخوة: لقوله تعالى: ﴿هَارُونَ أَخِي﴾ (طه: 30)، فكما أن هارون كان أخاً لموسى كذلك كان علي أخاً لرسول اللَّه. وهذا ثابت مشهور عند الفريقين من أن النبي اتخذ يوم المؤاخاة علياً أخاً دون سائر الناس، ثم أكد على هذه المسألة بأحاديث منفصلة ومتعددة وبصيغ مختلفة طيلة فترة الدعوة المباركة كقوله صلى الله عليه وآله: أنت أخي في الدنيا والآخرة. وهنا نكتة هامة أشار إليها النبي صلى الله عليه وآله، وهي أن التلازم الأخوي بينه وبين علي ليس عصبوياً ولا يقتصر حكمه على الدنيا بل يتجاوزه إلى الآخرة أيضاً بلا انفصال.
3- منزلة المؤازرة: وهو ما نفهمه من قوله تعالى: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ (طه: 31) حيث أن النبي موسى عليه السلام طلب من اللَّه تعالى مؤازرة أخيه هارون في دعوته، فأعطاه اللَّه سبحانه سؤله وقال له "سنشد عضدك بأخيك"، وهكذا كان حال عليّ عليه السلام مع النبي حيث كان مؤازراً له على مستوى الدعوة ككل وملازماً له في جميع المواقف والمعين على مقاصده سواء كان على مستوى التبليغ كتبليغ سورة براءة للمشركين في مكة أو على مستوى المعارك العسكرية إذ ما قام عمود الدين ولا استقام أمره لولا تضحياته وبسالته وعزيمته في الموت دفاعاً عن النبي ورسالته.
4- منزلة واجب الطاعة: لقول اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ (طه: 90). وفق المفهوم الإسلامي فإن للإمام حق على الناس وهو إتباع أمره والانقياد إلى مشيئته والطاعة لما يدعوهم إليه. ولهذا خطّأ العلماء كل شخص خرج في الجمل أو صفين أو النهروان على علي عليه السلام سواء كان مقاتلاً أو قيادياً. إضافة إلى ذلك، ما سبق أن دعا إليه النبي المسلمين من اعتبار كل ما يصدر عن علي حقاً، حيث قال: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار". لهذا، فإن الإتباع الذي دعا إليه هارون والطاعة لأوامره متلازم أيضاً مع ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله علي عليه السلام.
5- منزلة الصدّيق: قال اللَّه تعالى: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُون﴾ (القصص: 34) وقال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ (الزمر: 33). أخرج القرطبي في تفسيره ج15 ص256، والحسكاني في شواهده ج2 ص178، وابن عساكر اريخه ج42 ص359 أن الذي جاء بالصدق محمد والذي صدق به علي بن أبي طالبوقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين﴾ (التوبة: 119). نزلت في علي بن أبي طالب لأنه المعني بكلمة الصادقين. قال به كل من السيوطي في الدر المنثور ج3 ص290، والحسكاني في شواهده ج1 ص346، والزرندي الحنفي في درره ص91، والقندوزي في ينابيعه ج1 ص344. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء﴾ (الحديد: 19).
6- منزلة العصمة: لما كان هارون معصوماً عن الخطأ والزلل والنسيان بحكم نبوته، فكذلك علي معصوم عن كل رجس بشهادة من اللَّه سبحانه وتعالى في آية التطهير. قال ابن منظور في لسان العرب: الرجس: الخبيث القذر والنجاسة، ويأتي بمعنى العمل القبيح ووسوسة الشيطان. وفي مجمع البحرين نقل قول العلماء بأن ذهاب الرجس ووقوع التطهير يستلزم عدم العصيان والمخالفة لأوامر اللَّه تعالى ونواهيه.
7- منزلة صاحب الآيات والسلطان: وهي من المنازل المشتركة بين هارون وعلي عليه السلام كما يستفاد من الآيات الباهرات. قال اللَّه تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (المؤمنون: 45)، وقال في سورة القصص الآية 35: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا﴾، وقال في عزيز قرآنه: ﴿بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 49). ذكر الطبرسي في تفسيره ج8 ص33، أنها نزلت في الأئمة من آل محمد، وقال في جوامع الجامع ج2 ص773 أنها نزلت في النبيأئمة والعلماء الذين حفظوه ووعوه ورسخ في قلوبهم، وهذان من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز. وروى الطباطبائي في تفسيره ج16 ص142 نقلاً عن الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: هم الأئمة، ونقل المجلسي في البحار ج23 ص193 وفرات الكوفي في تفسيره ص320 عن أبي جعفر عليه السلام أنها نزلت في الأئمة خاصة. ولا يخفى أن علياً كان أول الأئمة وأعظمهم، وصاحب الآيات الكبرى على الصعد كافة سواء منها العلمية، أو ما كان يحتج به على خصومه، أو ما كان منه إذا حمي وطيس المعركة ذوداً عن النبي ودين اللَّه، فكان آية في البأس والاستبسال حتى أُعجب من صنيعه جبرائيل عليه السلام فنادى لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، أو مما كان من كراماته التي كانت تبهر الناس، أو من إنباءاته بالغيب كإنبائه عن مقتل ذي الثدية يوم النهروان، ومن عظم شأنه استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه، وكفى بهذا دليلاً.
8- منزلة أهل الصراط المستقيم: قال اللَّه تعالى في موسى وهارون: ﴿َآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الصافات: 117 118)، فالصراط المستقيم الذي ورد في فاتحة الكتاب يُؤَوَّل في أحد وجوهه على أنه أمير المؤمنين علي عليه السلام. قال بذلك جمع من مفسري القرآن كالطوسي في تبيانه ج1 ص42، والطبرسي في مجمعه ج1 ص72 والفيض الكاشاني في الصافي ج1 ص85 والحويزي في نور الثقلين ج1 ص21 والحسكاني في شواهده ج1 ص74 وابن الدمشقي في جواهره.
9- منزلة أهل النصر والغلبة: قال اللَّه سبحانه وتعالى في قرآنه حاكياً عن موسى وهارون ﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ (القصص: 35)، وقال في سورة الصافات ﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾الآيتين 116 117، وأنزل اللَّه سبحانه في علي عليه السلام ما يدل على منزلته مع هارون في المعنى نفسه وفي اللفظ، قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: 62). قيل إنها نزلت في علي، ويدل عليه ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله رأى عند إسرائه مكتوباً على العرش: أنا اللَّه لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، محمد عبدي ورسولي، أيدته بعلي فأنزل اللَّه الآية، فكان النصر علي بن أبي طالب. ذكره كلٌ من الحسكاني في شواهده ج1 ص293، وابن عساكر في تاريخه ج42 ص260 وغيرهم. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون﴾ (المائدة: 56)، نزلت في علي بن طالب، قال به جمع كبير من المفسرين والعلماء.
10- منزلة الأعلمية: وهي شرط في النبوة كما الإمامة، فإن هارون من حيث نبوته كان أعلم أهل زمانه، وكذلك علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعلم الناس. وردت بذلك الأخبار بألفاظ مختلفة كحديث: أقضاكم علي. علي الأعلم بالسنّة. علي أعلمكم بالسنّة. علي أعلم الناس بالسنّة. علي أعلم أهل بالمدينة بالفرائض، وحسبك قوله صلى الله عليه وآله في الحديث المشهور: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب. فراجع المصادر كابن كثير في تفسيره ج1 ص155، والدارقطني في علله ج1 ص77، وابن سعد في طبقاته ج2 ص339، والذهبي في النبلاء ج15، وابن حجر في فتح الباري ج8 ص127، وابن عساكر في تاريخه ج42 ص241 وج51 ص300، وابن خلدون ج1 ص197، وغيرهم.