حسن زعرور
لطالما جذبت الخطيئة إليها كثيرين، لم لا وفي رحمها المال والسلطة، قوة ترسم المسار والمصير، وتفرض قدرة البطش والقرار، وأدهى ما في الأمر إنسياق البشرية خلفها، دون إدراك واعٍ أو مساءلة، في تبلّد ضمير لم يسبق للإنسانية أن خبرته، ضمير رغم معرفته بكذب أميركا يعجز عن محاسبتها على ما تفعله في العراق. ضمير رغم يقينه من عدوانية إسرائيل على الشعب الفلسطيني يخاف التلميح بذلك، ضمير التاريخ معه لقيط الوحشية والحقيقة ابنة الخديعة، ضمير ليس له ضمير، ولو كان غير ذلك لأقرّ بأن أميركا وإسرائيل هما أسوأ وحشين شهدتهما البشرية في تاريخها.
*أبناء الخطيئة:
يتحفنا أتباع الخطيئة في إعلامياتهم وأدبياتهم السياسية بأن أميركا هي قمة الحضارة والرقي وأنها أم الديمقراطية وأبوها، تلك أمهم، أما نحن فنسأل الواقع والواقع يجيب، يقول الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب): "لو استطاع الناس أن يكتشفوا ما فعلناه فسيطاردوننا في الشوارع ويعدموننا"(1). لم يكن بوش بطبيعة الحال يقصد (آل بوش) حصراً، فجده جورج هيلبرت والكر بوش الملقب "بوشتايل" (الذَّنَب الكثيف)، طالما فاخر بوضعه المتفجرات في أفواه الضفادع ومراقبة تطاير أشلائها بتلذذ، أو إبنه الرئيس الحالي العضو في جمعية "الجمجمة والعظام" تحت اسم "ماغوغ"، يتعاطى ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفلد "دعارة الأطفال" كما أثبتت تحقيقات: المراسلة بيتي بريوتن، السناتور جون دي كامب، الكاتبة شيللا كالدر، المحقق تيد غندرسون، نورين غوش، دايفد كفوان، بول بوناتشي، الصحفية برونتو، الدكتور فرانك أولسن (قُتل)، العاملة في الحقل الإجتماعي كاثلين سورنسين، المدعي العام الأميركي عن ولاية نبراسكا "غاري كارادوري" الذي أسقطت المخابرات الأميركية طائرته في 11 تموز 1990وقتلته مع ابنه لإخفاء نتائج تحقيقاته، مراسل الواشنطن بوست "كريغ سبنس" الذي قُتل أيضاً، الكاتب جيمس هاتفيلد(قُتل)، ويعترف أنثيونيولا ساجا أستاذ بوش في جامعة يال أنه يمتلك 150 ألف صورة لأطفال في أوضاع فاضحة.
كما أن بوش الأب لم يكن يقصد بالطبع ابنه جب بوش حاكم كاليفورنيا وعلاقته الحميمة مع "بن لادن" ومقتل الصحفية الأميركية سوزان جوفين لكشفها تلك العلاقة وأن بن لادن "يعمل مع المخابرات الأميركية تحت اسم تيم عثمان"(2). وعشرات فضائح الإختلاس والقتل التي كان وراءها آل بوش والتي عتم الإعلان الأميركي عليها حرصاً على ديمقراطية أميركا المزعومة. ما قصده بوش الأب هو النظام الأميركي كله، نظام قال عنه المفكر مونترلان أنه "لم يسبق منذ أن وجد كوكب الأرض أن وجدت أمة واحدة نجحت كأميركا في إلقاء الأخلاق والنوعية الإنسانية إلى الهاوية" وأيده في ذلك كليمنصو* "إن أميركا هي التطور من البربرية إلى الانحطاط"(3)، ومع ذلك يتحفنا أتباع الخطيئة بمثاليات أميركا. لقد أظهر إعصار كاترينا أنها أكثر الدول عنصرية في العصر الحديث، وأن هناك 35 مليون عائلة فيها تعيش تحت خط الفقر لأنهم سود أو مكسيكيون، وأن 45 مليون أميركي ليس لديهم تأمين صحي، وأن "عدد الأميين40مليوناً"(4)، وأن 630 مصرفاً أفلس في عمليات إحتيالية، وأن استهلاك الحشيش بين الشعب الأميركي في عهد بوش يفوق أي مكان على وجه الأرض، وأن هناك 100 عملية قتل كل سنة، وخمسة ألاف طفل يموتون من حقن الهيرويين، وخمسة ملايين شخص ضحية الإجرام، أخيراً "علينا أن نشعر بالإرتياح لحصولنا على رئيس (بوش) يدخن الماريجوانا ويجرد الناس البائسين من حقوقهم"(5)، أهذه هي الديمقراطية؟!
* اللعبة:
دعونا نسأل ببساطة، لو عم السلام والأمن العالم كله، هل يظل هناك حاجة للسلاح الأميركي وما هو مصير مصانع الأسلحة الأميركية والإقتصاد الأميركي يا ترى؟ دعونا من الطوباويات: "بالنسبة للولايات المتحدة لديها سجل حافل ملحوظ وموثق في إفتعال الحوادث وتلفيق الأدلة" كما يقول اللورد روجرز، وكما يؤكد جورج تانهام منسّق المساعدات الأميركية إلى فيتنام (1963) من أن هم أميركا والوكالات الدولية "إقامة حكومات من أدنى المستويات"(6)، أولاً لزيادة إهتراء الدولة، وثانياً لإظهار أميركا كمنقذ، وبالتالي تسهيل سيطرتها على اقتصاديات البلد، تلك هي اللعبة التي لم يخجل زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق من الجهر بها في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" و "أن حلفاء أميركا أتباع وخدم وعليهم دفع الجزية لها"، هذه الجزية هي التي تساعد الاقتصاد الأميركي في نموه الذي يفاخر به الأتباع، بدليل أن الدول التابعة لأميركا استثمرت فيها عام 1990، 88مليار دولار، ومع ازدياد دول التبعية ازداد الاستثمار حتى بلغ 865 مليار دولار عام 2001 بمعنى أن رفاهية أميركا مرهونة بازدياد الدول الخاضعة لها. يقول الرئيس الأميركي الأسبق ترومان (1945): "سيأتي وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى مواد الدول الأخرى، معادن لابرادور وليبيريا لاستمرار سير مصانع فولاذنا، نحاس تشيلي، قصدير بوليفيا وماليزيا، كاوتشوك اندونيسيا وكل المواد اللازمة لنا من بقية أقطار العالم"(7). إن دفع أميركا ثمن احتياجاتها هذه يرهق اقتصادها وعليه تلجأ إلى إثارة الفتن في تلك الدول مستغلة المثاليات (حرية، سيادة، استقلال) لتسهيل تدخلها وفرض سيطرتها، ووضع حكام أتباع لها يسهلون سيطرتها. ويعترف الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون "أن هدف أميركا هو الوصول إلى الأسواق الرئيسية ومصادر الطاقة للدول" أما طريقة الوصول الحديثة فتلك حكاية أخرى.
* الهيمنة والخداع
المؤامرات، الانقلابات، الاغتيالات، الإحتلالات، سمة السيطرة الأميركية في القرن الماضي. اليوم تستغل أميركا الشرعية الدولية والمؤسسات التابعة لها: (صندوق النقد الدولي، المصرف الدولي، معاهدة التجارة الدولية الحرة: "GATT"، منظمة: "OCDE"، الحلف الأطلسي) لفرض سيطرتها وعقاب الدول التي لا تخضع لها بحجة مخالفتها للشرعية الدولية وليس أسهل على أميركا من خلق الأسباب في ظلّ سيطرتها على الإعلام العالمي "الصحافة الأميركية لا تسمع أي شر، لا ترى أي شر، لا تذكر أي شر"إن تعلَّق ذلك بالمصلحة الأميركية(8)، ولننظر:
1-صندوق النقد الدولي، أقيم على مبدأ ضمان التعاون الدولي على صعيد العملة وتلبية مطلب الانضباط المشترك بين الدول، وتأمين غطاء للعملات وأسعار الصرف وتوزيع إعانات السيولة، الأهداف نبيلة بالطبع لكن دعونا نلحظ التطبيق: تتكون هيئة الصندوق (سلطة القرار) من 140عضواً، تمتلك الولايات المتحدة وحدها 23% من الأصوات بمعنى "أن أي مشروع لأي دولة يتعارض مع أهداف أميركا لن يكتب له النجاح، وأي دولة تعيش معاناة إقتصادية تحتاج مرغمة إلى رضى الإدارة الأميركية لتحصل على إعانتها من هذا الصندوق"، إن هدف أميركا من خلق إضطرابات في الدول المستقرة هو إرباكها اقتصادياً نتيجة الأحداث الداخلية فيها ودفعها للاستدانة من الصندوق وبالتالي وقوعها بين براثن الولايات المتحدة الأميركية.
2- المصرف الدولي: اسمه الكامل "المصرف الدولي للإعمار والتنمية/BIAD" أقيم "لتعزيز المساعدة على إعمار البلدان ونموّها الاقتصادي" ويا لنبل هذه الأهداف، غير أن الواقع التعاملي يظهر أن هدف المصرف العمل بعزم وتصميم على نقل اقتصاديات الدول وبالأخص الفقيرة إلى الإقتصاد المعولم (السوق الحرة) تسهيلاً لسيطرة الشركات الأميركية وهيمنة الاقتصاد الأميركي عليها لأن أميركا تمتلك غالبية الأصوات في المصرف الدولي إضافة إلى رئاسته وبالتالي تتحكم بالقروض الممنوحة واضعة لموافقتها شروطاً منها: تحرير الأسعار، خفض العملة الوطنية، تجميد الأجور، اقتطاع النفقات العامة، الخصخصة، فتح الأسواق التجارية أمام التنافس الدولي، وبإيضاح موجز إرهاق الطبقة الفقيرة في الدولة طالبة القرض ودفعها للثورة وتستفيد أميركا من كلتا المرحلتين.
3- الخصخصة: أو كما تعرف داخل صندوق النقد "الارتشاء" لأنه -وبحسب نظام الصندوق- "يحق لمسؤول الدولة التي تقوم بخصخصة مواردها عمولة10% من قيمة العقد"(9)، يدفعها لهم الصندوق بإشراف الولايات المتحدة وبالتالي على مسؤول الدولة حيازة رضى أميركا لقبض عمولته.
4- تتيح اتفاقية الـ "غات/GATT" للشركات الأميركية السيطرة على إنتاج الدول وحاجاتها الاقتصادية من خلال معاهدة "TRIPS" لقد مكنت هذه الاتفاقية ثلاث شركات أميركية من السيطرة على 90% من رساميل المكسيك على سبيل المثال وتمتلك الشركات حالياً1\3 من أراضي الدولة المكسيكية، ويصف بورنر دياز (رئيس مكسيكي سابق) المأساة بقوله "أيتها المكسيك المسكينة، البعيدة جداً عن الله، القريبة جداً من الولايات المتحدة"(10). في عام 1983 تلقت الأكوادور وهي عضو في الأوبك نصائح أميركية بطلب قرض قيمته1.5مليار دولار من صندوق النقد الدولي لإقامة مشاريع تنموية، وافق الصندوق على القرض تحت بند "مساعدة إستراتيجية مؤقتة" وطلب من الحكومة الاكوادورية: رفع سعر الغاز المنزلي80% بحلول العام2000، إلغاء 26ألف وظيفة، تخفيض أجور العمال50% بحجة تأمين سداد القرض، سرعان ما وقعت الأكوادور في الشرك الأميركي، ألغت 20ألف وظيفة، ثم باعت للشركات الأميركية أكبر نظام مائي لديها، وسيطرت شركة بريتش بتروليوم الأميركية على خطوط النفط حتى الإنديز. تعتبر تانزانيا من أكبر مصدري الذهب في العالم ومن أكثر الدول معاناة من مرض الإيدز (1.3مليون مريض). كان التعليم والطبابة في الدولة مجانيين، ثم تدخلت أميركا بحجة مساعدة تانزانيا على مواجهة المرض، سرعان ما وصل صندوق النقد العالمي، والبنك الدولي وفرض الشروط، سنتان فقط وتغيرت تانزانيا كغيرها من الدول التي وضع الصندوق يده عليها، ارتفعت نسبة الأمية بعد إلغاء مجانية التعليم لسد فوائد الصندوق، توقفت الطبابة المجانيّة أيضاً فانتشر مرض الإيدز والوفيات، وفي الختام "سيطرت شركة باريك الأميركية على أكبر منجم ذهب في أفريقيا"(11).
*الصورة والظلّ:
يستحيل فصل السياسة عن الاقتصاد، لأن الساسة بحكم موقعهم ودورهم أدوات للسيطرة الاقتصادية وكذلك الحروب. السياسة لعبة لمال، والحروب ممر السيطرة والربح دائماً "رأس المال"، في السياق عينه يصعب فصل الدور الأميركي الإسرائيلي عن بعضه، لأن قيادتهما المالية واحدة وهي "المال الصهيوني". يتحكم هذا المال "بصلب القرار" ويحدد المسارات السياسية والعسكرية للبلدين، أما الحواشي الهامشية فيترك حرية التحرك فيها لقيادة الدولتين شريطة عدم الخروج عن الصلب، وأي خروج عنه عواقبه وخيمة كما حصل مع نيكسون وكلينتون. إن أي مسؤول أميركي في أي موقع يبدأ تدرجه من الأدنى حتى القمة (الرئاسة) في مؤسسات وشركات "المال الصهيوني" وبقدر تفانيه ورضاها يصعد نجمه وبالعكس، وهو يستغلّ كل الأمور بما في ذلك "المثاليات والكذب" ليستمر رضاها وصعود نجمه وازدياد عوائده المالية، كما يعمل من خلال المراكز التي تؤمنها له "قيادة رأس المال الصهيوني" على سوق الأحداث العالمية باتجاه سيطرتها وفائدتها –القاعدة عينها تنطبق على كثيرين من قادة العالم- إن معظم وزراء خارجية أميركا على سبيل المثال –المسؤولين عن تركيبة الحدث الخارجي بحكم موقعهم- موظفون لدى قيادة رأس المال الصهيوني قبل توليهم مناصبهم وخلالها وبعدها، وعليه يمكن فهم سرّ سير الأحداث العالمية بشكلها الذي نراه من خلال دورهم فيها، وينبئنا سجل وزراء الخارجية الأميركية أنه: كان جون فوستر دالاس مستشاراً لشركة ستاندرد أويل النفطية "ومديراً في مؤسسة روكفلر"، كريستيان هيرتر كان "مديراً في شركة روكفلر"، دين راسك كان "مديراً في شركة روكفلر"، هنري كيسنجر كان "عضواً في أخوة روكفلر"، سيروس فانس كان "مديراً في شركة روكفلر"، الكسندر هيغ كان "مديراً في شركة روكفلر"، ومدير تشيز مانهاتن بنك، جورج شولتز ممثل حقوقي لشركات النفط الأميركية وواحد من كبار حملة الأسهم فيها، ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، باول، رايس، وجورج بوش الرئيس الحالي مدراء شركات تابعة لشركة روكفلر. تشكل "شركة روكفلر" أحد أعمدة إسرائيل السبعة، وعليه هل يصعب فهم من يحكم من، الصورة أم الظلّ، أميركا أم إسرائيل، متى نفهم؟!.
1-حديث لبوش الأب مع نشرة سيرتش ماكليندون عدد حزيران 1992.
2- كتاب أوكار الشر ص: 185.
3- يواخيم مزناو؛ كتاب رحمتك يا الله؛ ص: 330؛ دار الحوار الثقافي.
4- كاليهاينش دشنر؛ كتاب المولوخ إله الشر؛ ص: 534؛ قدمس للنشر والتوزيع.
5- مايكل موور؛ كتاب رجال بيض أغبياء؛ ص: 242؛ الدار العربية للعلوم.
6- جورج تانهام؛ كتاب حرب بغير بنادق؛ ص: 60؛ دار الكرنك للنشر القاهرة.
7- ميشال بوغنون؛ كتاب أميركا التوتاليتارية؛ ص: 114؛ دار الساقي.
8- غريغ بالاست؛ كتاب أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها؛ ص: 20؛ الدار العربية للعلوم.
9- غريغ بالاست؛ كتاب أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها؛ ص: 155؛ الدار العربية للعلوم.
10- ميشال بوغنون- موردان كتاب أميركا التوتاليتارية؛ ص: 46؛ دار الساقي.
11- غريغ بالاست؛ كتاب أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها؛ ص: 20؛ الدار العربية للعلوم.
* رئيس وزراء فرنسي سابق.