حسن زعرور
الإنسحاب من غزة دون مقابل، ثمرة جهاد المقاومة الفلسطينية ونتاج التغيير الجذري في ذاتية الوجود الإسرائيلي، الذي تكّون عقب الخروج المذلّ من جنوب لبنان أمام حزب الله. لن نقف عند اجتهادات المحللين الذين يعيشون ذهنية الهيمنة الفكرية الإسرائيلية منذ زمن، مشككين بما يجري، معتبرين أنه "خطة إسرائيلية كامنة". لكننا نقف عند الانهزامية المتنامية في التكوين الإسرائيلي، وتحوّلها إلى أسس تتحكم بمسار المرحلة القادمة، مرحلة نهايتها معروفة، لا يحجبها جدار عزل، أو يبعدها تهويل عسكري، أو يخفي حقيقتها تضليل إعلامي، فلكل ظالم نهاية، هكذا علّمنا التاريخ.
*الجنرال "رعب"
أقيمت دولة إسرائيل بمفاهيم صهيونية عنصرية متزمتة، إستغلت روح العصر الأوروبي التوسّعي الإستعماري، الذي كان سائداً بقوة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ونزعة "التفوق العرقي" الذي كانت تؤمن به الأمم الأوروبية، والذي أدى إلى حربين عالميتين في ما بينها، وملايين القتلى عدا الدمار والخراب. تعلّم الأوروبيون الدرس، وأخذوا من العبرة مفاهيم تعاملية جديدة حضارية راقية، وبقدر ما تطور الأوروبيون والعالم معهم، بقدر ما غرقت الدولة الغاصبة في عنصريتها و ظلاميتها. "الدم اليهودي" نقي، ويجب أن يظلّ نقياً يمنع إختلاطه بدماء "الأغيار" من الشعوب الأخرى، تحميه من ذلك قوانين دينية واشتراعية سنتها الدولة العبرية. "الإختيار الإلهي" قرار إلهي لحماية ودعم الفرد الإلهي الصهيوني والدولة الصهيونية المقررة من الله. عمل الفرد الصهيوني من عمل الإله، وقراره تنفيذ لإرادة الرب. إحتلال الأرض مشيئة إلهية. قتل أطفال الفلسطينيين حكم إلهي. الوحشية والتعذيب وتدمير البيوت حكمة يريدها الرب لحماية دولته. "لقد اقتلعنا 400 قرية عربية هي تحت أقدامنا الآن، واعتدنا على قيام جنودنا بالسلب وإطلاق النار على العرب، أصبحنا أكثر كذباً وأكثر إدّعاء بالفضيلة"(1).
قوانين التلمود وتشريعات الحاخامين الموضوعة منذ ثلاثة آلاف عام أعيد العمل بها بقداسة فرضت نفسها وبقوة على المجتمع الصهيوني كله بأطيافه المختلفة، استحال معها إدخال أي تطور حضاري آخر بسبب التعارض بينه وبين أحكام تلك الشريعة، وتحولت قضية من هو اليهودي إلى مأزق لم يجرؤ أحد من قادة الدولة العبرية على التصدي له. والتحجر العقلي والديني هذا خلق في ذاتية الفرد الصهيوني الإيمان المطلق بأن دولته هي "مركزية الأرض" والدول الأخرى تدور في فلكها، وفلسطين؟ هي مكان آخر أما هذه فأرض إسرائيل، والشعب الفلسطيني؟ "لم يكن هناك أمة فلسطينية أبداً، و لا شعب فلسطيني" هكذا صرخت غولدا مائير أمام عدسات المصورين والإعلاميين في نيويورك عشية انتصار الجيش الصهيوني في عدوان 1967، وصفق الاميركيون والأوروبيون لها طويلاً، وكم من مرّة ردد بيغن بغضب: "كانت فلسطين أرضاً خالية أعطاها الرب لشعبه فعمّرها" والآن "يقوم الأشرار العرب بإجبارنا على الدفاع وإطلاق النار عليهم"(2). لطالما أحب الاميركيون والأوروبيون ذلك "داوود الإسرائيلي في مواجهة جوليات العربي" ثم جاءت الانتفاضة لترفع الستار، وعمليات الجهاد الإسلامي وحماس لتعرّي الحقيقة من الكذب الصهيوني. لقد حقق الشهيد محمد الدرة باستشهاده ما عجزت عنه أربعة حروب عربية إسرائيلية، وبمقتله وقف العالم مشدوهاً ينظر إلى العنصرية والوحشية الصهيونية بصورتها الحقيقية، وحقيقة وجود شعبٍ مستعبد مقهور سلبت منه أرضه، يسعى بدماء أطفاله ونسائه وشيوخه لإستعادتها. تحولت الإنتفاضة إلى "الجنرال رعب" للصهاينة وشرخت بنيان تماسكهم الداخلي والثقة بمستقبل دولتهم ودفعت شارون للإقرار بإذلال "المعطيات الديمغرافية ومقاومة الفلسطينيين للوجود الصهيوني داخلهم كانت سبباً من أسباب الإنسحاب من غزة"(3)، ترى، ألا تنطبق المعطيات عينها على بقية ارض فلسطين؟!
*إهتزاز الوجود الصهيوني
"عندما تنفجر الفقاعة الخلاصية للحاخامات، يتضح أنه لن يتحقق مجد ملكوت الملك المسيح، بل سيتتابع الوجود بصعوبات عظيمة، دولة إسرائيلية صغيرة وضئيلة في حدود 1967، سيكتشف ناس (إيمونيم) أنه لم تعد لهم جذور في (إسرائيل)، وسيكونون أول من يهجر البلاد"(4). نبوءة كاتب صهيوني أم حسابات دقيقة لواقع يعلمه الرجل ويحذّر منه قبل ثلاثين عاماً؟ إن عودة هذا الكيان للتقوقع داخل حزامه الأمني هو "إنهزام" ليس للفكر العسكري التوسّعي فحسب، وإنما لكل مقومات الوجود التي أقيمت على أساسها دولة العدو. ربّي المجتمع الصهيوني بأجياله على مفهوم ديني إيماني أن حدود دولته بوعد إلهي هي "من الفرات إلى النيل"(5) وجاء الإنسحاب الأخير من غزة ليقوّض ليس الوعد وإنما الإنسان المؤمن به والذي فقد بسبب ما حصل كامل الثقة بكل ما رُبّي عليه بما في ذلك الوعود الإيمانية الأخرى. أضف إلى ذلك أن ثقافة المجتمع الصهيوني قامت على أساس "الفوقية" للشعب العبري على سواه وبالأخص الفلسطينيين، كما ساهمت أربعة انتصارات حربية على العرب في ترسيخ مدلول "الإسرائيلي السوبر" الذي لا يقهر في الذات، والنشء الصهيوني "ما من جيش عربي يستطيع الانتصار على إسرائيل"(6)، غير أنّ حزب الله والمقاومة الفلسطينية انتصروا على الجيش الصهيوني وبإمكانياتهم المتواضعة، وهو انتصار يقوض البنية الكاملة للمجتمع الصهيوني ويهز معتقداتها وثقتها.
*كابوس عدد السكّان
رب قائل أن الانسحاب من غزة قد يكون تكتيكياً صهيونياً وإنهم لا يزالون يتحكمون بغزة بأكثر من وسيلة. إن مفهوم الانسحاب ودوره في الروح الصهيونية هو المهم وليس حجم الأرض والكمّ والكيف. دولة العدو في هروبها إلى الأمام لدرء المصير المرعب تغلّف فعلتها بجوانب كي لا تنكشف سوءتها. ولننظر: يقول الكاتب الإسرائيلي بن كاسبيت أنه "حتى اليوم، لم يجد الجيش الإسرئيلي حلاً حيال صواريخ القسام" مع أنها صواريخ بدائية ومفعولها العسكري نفسي فكيف إن طوّرت؟ وأما الكاتب بنفسنتي فيظهر صورة حقيقية عميقة مستقبلية "إن كابوس عودة الفلسطينيين يقضّ مضاجع الإسرائيليين"(7).
تلك هي الحقيقة التي تخيف الروح الصهيونية، والسبب ببساطة "الديمغرافيا". سبعة وخمسون عاماً مضت على احتلال فلسطين، وإقامة الدولة المغتصبة، تقلص فيها عديد يهود العالم إلى إثني عشر مليوناً وخمسماية ألف يهودي. كان من أساس وجود وإقامة الدولة العبرية استيعاب يهود العالم فيها، غير أنها حتى اليوم لم تستوعب إلا خمسة ملايين ونصفاً وتحاول قيادتها جلب مليون يهودي خلال السنوات العشر القادمة إن أمكن لها ذلك وسط رفض معظمهم. والأسباب: الإنتفاضة والخوف من المستقبل وقرار ستة ملايين يهودي اميركي الإستقرار نهائياً في الولايات المتحدة. وعليه يتحكم العديد البشري بمستقبل الدولة العبرية بنفس المستوى الذي حصل مع بريطانيا وفرنسا ومستعمراتها. تستطيع دولة اسرائيل بأسلحتها المتطورة قصف وتدمير أي مكان في العالم العربي غير أنها لم تعد تستطيع السيطرة على مكان أبداً في ظلّ نقص المخزون الإحتياطي البشري اللازم، وهو ما أظهرته وكشفت عنه الانتفاضة وأبانت عجز الجيش الصهيوني ودولته عن فرض أمر واقع على غزة مع صغرها جغرافياً رغم القصف والتدمير والإغتيالات، أضف إلى ذلك تزايد العديد البشري الفلسطيني تباعاً بحيث أنه لن تمر إلا سنوات قليلة ليصبح أكثرية، ثم إن المخزون الإحتياطي الفلسطيني المتمثل بمليون وأربعماية ألف فلسطيني متواجد داخل(حدود 1948) يشكلون للصهاينة بؤرة رعب ومأزقاً لا يعرفون له حلاً. إن أقدم الصهاينة على طردهم إلى غزة كما هو مرجح، يخلقون كثافة سكانية إقتصادية عسكرية معادية لهم تشكل دعماً مهماً للمقاومة الفلسطينية وتفعّل المطالبة بحقوق العودة وتشرعنها، وإن أبقتهم في الداخل لن تمضي إلا سنوات قليلة ليصبحوا ثلاثة ملايين فلسطيني تبعاً للولادات الحاصلة، موجودة في قلب الدولة العبرية، وهو ما يرعب الصهاينة.
*انقسام الصهاينة
يعتبر62% من الصهاينة أن شارون فاسد ولص(8)، يختلس أموالهم لشراء أملاك له خارج الكيان، وأنه متفرد بالقرار، سلطوي النـزعة، قام بالانسحاب من غزة لصرف الأنظار عن سرقاته وإبعاد محاكمته، وبين من هم معه ومن هم ضده، وبين المتدينين واللامتدينين تشهد الدولة العبرية إنقساماً تطل منه يهودا والسامرة من جديد. يقود المتدينين هذه المرة علماء وأطباء ومهندسون وخريجو جامعات وقادة جيش ومقاتلو الوحدات المختارة وفرق الكوماندوس، وهؤلاء باتوا مستعدين تعبوياً ودينياً وعسكرياً وسياسياً للإنفصال عن الدولة العبرية "الكثير من الجمهور الديني القومي يتوقع خلاصاً سماوياً، والقطيعة بينهم وبين الدولة آخذة في الإتساع وتشير الأرقام إلى أن هذا الجمهور أصبح ناضجاً لدولة يهوذا"(9).
*الإنفصال
لقد هدم الإنسحاب من غزة كل المفاهيم والمقومات التي على أساسها بنيت دولة العدو، والصهيوني الذي آمن بتعاليم التوراة المتزمتة والغطرسة الصهيونية فقد مع الإنسحاب إتزانه والثقة، وهو يتجه الآن إما إلى الثورة ضد الوضع الناشئ أو إلى التيه من جديد "الحلم ضاقت أنفاسه وأخذ يلهث"(10) سقط رهان القوة، وحلت محله رؤيا مرعبة يبين منها دولة إسرائيل المقسّمة بين شعبين متناحرين، وتلك حكمة التاريخ.
1- يغئال سيرنا؛ يديعوت أحرنوت؛ كانون الأول/2004م.
2- جان فرنسيس هلد؛ رحلة في قلب اسرائيل؛ ص: 66؛ دار المروج.
3- عوزي بنـزيمان؛ محرر رئيس في صحيفة هاآرتز؛ آب/2005 نقلاً عن المؤتمر الصحفي لشارون.
4- اشعياء ليفوفيتش؛ مجلة عمداة؛ عدد: كانون الأول/1975.
5- يهودا أليطاني؛ مقالة من خلاص إلى هجرة؛يديعوت أحرنوت.
6- يشعياهوبن فورات وغيره؛ كتاب المحدال؛ ص: 155.
7- مقالة تشوق للإعتراف؛ هاآرتس؛ عدد كانون الثاني/2005.
8- آرييه الداد؛ يديعوت احرنوت؛ أذار/2005.
9- بن كاسبيت؛ معاريف؛آب/2005.
10- اديث كورن؛ الخروج الأخير؛ ص: 171؛ دار طلاس.