إيمان علويّة
"أنا -يا سيّدي- لا أريدها جنّة الأنهار والخلد والنعيم، ليس زهداً فيما عندك، بل هو طمعٌ بما هو أفضل ما لديك.. أنا -يا سيّدي- جنّتي هي جوار أبي عبد الله الحسين عليه السلام".
أن يتجاوز مسألة ضمان جنَّته ليقرّر كيف يريدها أن تكون، فهذا ما يستوقفك وأنت تقرأ وصيّة الشهيد المعلّقة إلى جانب رفيقاتها من الوصايا على أحد جدران "قربان"، المعرض الذي يجسّد المحطات الرئيسة لسفر الإمام الحسين عليه السلام، والقافلة التي التحقت به عبر التاريخ، وصولاً إلى شهداء الحاضر؛ هؤلاء الشهداء الذين لم يُخلقوا في زمانه، لكنّهم تمنّوا أن يكونوا معه، فهاجروا إليه في رحلة غربلةٍ وانسلاخ عن عالم المادّة، حتّى تحرّروا من أجسادهم، وحلّقوا في عالم الشهادة، فوصلوا إلى محضره، جنّة العشق.
•نداء الرحيل
تبدأ جولتك في "قربان" من "مكَّة المكرّمة"، يرافقك داخل المعرض دليلٌ، يعرّفك على محطات السفر، حيث سترى مجسّماً رمزيّاً لجدار الكعبة، رقائق زجاجيّة للمرايا منثورة على الأرض يعلوها شيء من الغبار، ليرمز إلى النفوس التي تعكس حقائقها إذ قد تكون جليّة نظيفة، وقد يكدّرها شيء من غبار الغفلة والدنيا. في "مكّة" أيضاً تطالعك ستائر سود، وستارة معلّقة تشير إلى أنّ أمر قتل الإمام أُعلن عنه منذ اللحظة الأولى لرفض المبايعة ليزيد: "اقتلوه ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة".
وستارٌ أبيض إلى جانب الستائر السود، كان الإمام يطلق نداءه وقد عزم على الرحيل نحو العراق: "خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة... من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا"(1).. يلتفت الزائر هنا إلى أنّ الإمام يعرف مصيره منذ البداية، وأنّه كان واضحاً في ندائه لكلّ الذين أرادوا أن يسيروا في ركبه أنّهم سيبذلون مهجهم ويوطّنون أنفسهم على لقاء الله.
•الكوفة
أبدعت الأيادي الفنّيّة التي جسّدت الكوفة في أن تقودنا إلى ذلك الزمن، بيوت ونوافذ قديمة، ورسائل تطلب من الإمام عليه السلام أن أقدم. قرأت في واحدة منها: "أمّا بعد: ... إنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ"(2).
الكوفة كانت الجهة الوحيدة من بين كلّ الأماكن، وأكّد ذلك مسلم بن عقيل عندما أتى إليها، فانطلق الإمام، وقبل أن يصل، نرى كيف انتهى المطاف بمسلمٍ وحيداً على باب طوعة وشهيداً في قصر الإمارة..
وتحولت الرسائل كلّها إلى رسالة واحدة: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".
•صحراء العشق
استشهد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره في صحراء كربلاء، ولكنّ المسيرة ما زالت مستمرة حتى اللحظة، يعبّر عن هذه الاستمرارية والاتّصال بكربلاء الشهيد بشير علويّة في تصميم جميلٍ امتدّ على أحد جدران هذه المحطّة، حيث نرى تموّجاً فنيّاً يمتد من حركة الإمام الحسين عليه السلام ليتشكّل على شكل مجاهد في الطرف الآخر، ليروي للزائر كيف يخرج المجاهد من رحم هذه الثورة الكربلائيّة ويكون استشهاده امتداداً لها.
الجميل أنّك ترى في "قربان" هذه الحركة التي تُنثَر خلالها دماء الشهادة، لتستحيل رياحين حمراء في عالم الخلود..
وعلى الجدار المقابل، يحلّق الشهداء في عالم الشهادة بدلالات فنيّة راقية إلى جانب مجموعة من الوصايا تؤكّد بمضمونها على عدم ترك حسين العصر وحيداً، وأنّ هؤلاء الشهداء كربلائيّون، لا كوفيّون.
•غربال الدهر
"أن يغربلك الدهر ويُغربلك وتبقى؛ فأنت الأندر الأندر". محطّة تلفت الانتباه بألوانها القاتمة التي تبدأ من اللون الأسود، وتتدرّج شيئاً فشيئاً إلى اللون الأبيض كلّما تحرّرت من أهواء الدنيا وأنت تسير في حلقاتها التي تضيق وتضيق إلى أن تتّسع، وتجد نفسك قد أصبحت في وسطِ النور. هنا يعيش الزائر لحظة غربلة، وقد تجتاحك أسئلة: هل أنا أنصر الإمام الحسين عليه السلام؟ هل أنا معه؟ ما هو تصنيفي بعد غربلة الدنيا لي؟ هل تمّت غربلتي أم بعد؟ هي لحظة صدق، أكثر من حلقات فنيّة وقناطر.. نترك تجربتها لكلّ زائر.. سيتذكّر أنّ من سبقنا هم المجاهدون وساروا في هذا الطريق، خلّصوا أنفسهم من متعلقات الدنيا وباتوا وسط الميدان.
•أحلى من العسل
محطّة الصبر والعناء والجهاد والجراحات والآلام والأسر، تتجدّد المعركة كما في كربلاء، هنا حيث ينال المجاهدون نصراً وشهادة. تدخل إلى غرفة يسودها ضوءٌ أحمر، ويتناهى إلى سمعك أنينٌ حزين، وترى مجسّم مجاهدٍ مستلقٍ بسكينة، يرمز إلى شهيد من عصرنا، واسى الإمام الحسين عليه السلام، حيث بشّره في الرؤيا أنّه سيُرزق الشهادة، لكن ... ذبيحاً، وبعد شهادته يزور أمَّه في عالم الرؤيا ليخبرها أنّ شهادته كانت أحلى من العسل؛ الشهيد ذو الفقار عزّ الدين.
سألتُ الدليل الذي رافقنا عن مدى تأثّر الناس بهذه المحطّة، حين تفلّتت دموعي التي حاولت جاهدة أن أضبطها، فأجابني: "إنّ العديد من أبناء المنطقة يعرفون الشهيد، وقد تكرّرت زيارتهم إلى المعرض، كانوا عندما يصلون إلى هذه المحطّة لا يتحمّلون ذلك، وبعضهم أصيب بالإغماء".
تخرج من هذه الغرفة رغماً عن قلبك، فإذا هي من الخارج خيمةٌ من خيم أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وإذ بصحراء كربلاء تعود أمامك من جديد، ويتجدّد الزمن، وتتجدّد البيعة أمام معسكر الأعداء، وتُغربَل من جديد: "هذا الليل قد غشيكم، فاتّخذوه جملاً"(3).
لكنّ أصحاب الإمام عقدوا أرواحهم على البيعة لإمامهم. يجيب الشهيد مرتضى آويني الذي اقُتبست فكرة المعرض من كتابه (قصة الفتح): "الجسد في الدنيا والروح في الآخرة، عقدوا أرواحهم لعهدهم الأزليّ، وطاروا بجناح الشهادة إلى حضرته".
•المجرّة
القتال والمبارزة ومن ثمّ السقوط هي مقدّمة العروج والتحليق. تنسلخ الروح هنا في هذه المحطة عن عالم الجسد، وتبدأ بالانتقال إلى العروج نحو الملكوت كما وصفها الإمام الخمينيّ قدس سره، فقال: "هل رأيتَ تحليق الطير؟ انسلخ من أغلال الشهوة حتّى ترى تحليق الإنسان!" ستجد هذه العبارة حاضرة لديك قبل أن تدخل المحطّة التالية..
•العروج
ما الموت إلّا قنطرة عبرها أهل اليقين وهم في الدنيا، فلم يعودوا يشعرون بضربة السيف تنزل على رؤوسهم، أو رصاصة تخترق أجسادهم. بعد تلك المحطّات، هنا سيجتاحك نورٌ وعبور...
ستعيش تجربةً مختلفة. ثمّة عالمٌ ملكوتيّ ستختبره، ثمّة قطرة دم رفعت إلى السماء، فتجلّت حقيقتها هناك شيئاً آخر، ثمّة نورٌ سيدخل قلبك، ثمّة صراطٌ نورانيّ ستعبره، ثمّة ذراعان ممدودتان إليك، ثمّة حبيبٌ سيستقبلك، ثمّة أصحابٌ سينتظرونك... ثمّة هدف من وجودك معلّقٌ بحسين عصرك. ستخرج من عالم الطواف إلى الدنيا وأنت تسأل نفسك: هل تستحق أن تكون ممّن يستقبلهم ذلك الحبيب بكلّ أثقالك؟!
سنترك المحطّة الأخيرة دون بوح أكثر؛ ليختبرها كلّ زائر ويقطف رسالة "قربان"؛ المعرض الذي استغرق تحضيره شهرين، وافتتح في يوم الشهيد، يستمرّ لشهرين من تاريخ افتتاحه.
وهو إنتاج وتعاون بين المنطقة الأولى في الجنوب وبين جمعيّة "أحياء" لإحياء التراث المقاوم. الفكرة مستوحاة من كتاب (قصة الفتح) للشهيد مرتضى آويني، فكرة وسيناريو: لجنة معرض نوح. سينوغرافيا وإخراج فني: الفنّان أيمن جابر. بمشاركة المهندسة بتول كريم. رسوم وجداريّات: الفنّان أحمد عبد اللّه والفنّان يوسف صقر.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد زائري المعرض الكائن في مجمع الإمام الحسين عليه السلام في صور، فاق 13000 زائراً على الرغم من الظروف والأحداث التي شكّلت عائقاً كبيراً أمام حركة الانتقال إلى الجنوب.
1.مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص29.
2.الإرشاد، المفيد، ج2، ص37.
3.الخرائج والجرائح، الراونديّ، ج2، ص847.