الشيخ إبراهيم السباعي
سنَّ الله تعالى للإنسان سُبُلاً واضحة، وكتب عليه مراحل لا بدّ من سلوكها، فكانت تلك السُبُل هي عوالم يتنقّل فيها الإنسان، وكلّما ختم مرحلة فُتح له بابٌ إلى مرحلة أخرى، حتّى يصل إلى نتيجة حتميّة إمّا الجنّة وإمّا النار. لذلك يكثر السؤال عن المراحل بعد الدنيا، وأوّلها مرحلة البرزخ، فما هو عالم البرزخ؟ وكيف يعيش الإنسان برزخه؟
•مفهوم البرزخ في الإسلام
في اللغة، البرزخ هو الحاجز الذي يكون بين شيئين، ففي القاموس: "الحاجز بين الشيئين، ومن وقت الموت إلى القيامة، ومن مات دخله"(1).
وهو المرحلة التي تمرّ على كلّ شخص من حين موته إلى يوم القيامة، سواءٌ أكان مسلماً أم كافراً، صالحاً كان أم طالحاً.
إنّ الحياة في البرزخ مغايرة للحياة في الدنيا، أمّا الروح فهي هي، لكنّها تخرج من الجسد الترابيّ، لتحلّ في الجسد المثاليّ، حيث لا يتناسب الترابيّ مع تلك المرحلة؛ لأنّ لكلّ مرحلة لباساً جديداً وحياةً جديدة، ويبقى الجسد الترابيّ بلا روح إلى زمن الوقت المعلوم، وهو يوم البعث ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ (المعارج: 43).
•عالم البرزخ في القرآن الكريم
إنّ الإيمان بما بعد الموتِ والاعتقاد به ضرورة من ضروريّات الدين، حيث جاء الوحيُ به وصرّح بذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أنّ عذاب القبر ونعيمه واقعان بلا ريب، وقد جاءت آيات القرآن الكريم تارةً مصرّحة وأخرى ملمّحة، منها:
1- قوله عزَّ وجلَّ عن آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (غافر: 46). وقد أخبرنا الله أنّهم يُعذَّبون في حياة البرزخ كلَّ يوم أوّل النهار وآخره، وقد فَنيت أجسامهم، ثمّ يوم القيامة يبعثهم الله ويُعيدهم كما كانوا بأبدانهم وأرواحهم، فيُدخَلون أشدّ العذاب في نار جهنم.
2- قال تبارك وتعالى عن الكافرين: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق ِذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (الأنفال: 50-51). يخبرنا الله تعالى أنّ الملائكة تضرب وجوه الكافرين وأدبارَهم؛ تعذيباً لهم واحتقاراً لهم عند قبض أرواحهم، وهذا في مرحلة السكرات التي تلي الموت، وهو أوّل البرزخ؛ فيتألّمون ويُعذّبون ويُضربون....
3- قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِين * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ (الواقعة: 88-94)، فالفاء تدلّ على التعقيب المباشر بعد قبض الروح، فالمؤمن -الذي هو مِن المقرَّبين- يكون له مباشرة بعد قبض روحه راحةٌ وريحانٌ وجنّة نعيم، والمكذّب الضالّ يكون له مباشرة بعد قبض روحه ضيافةٌ من عذاب الحميم، ويصلى ناراً في البرزخ قبل يوم القيامة.
•بابٌ جديد وبصرٌ حديد
إنّ الاحتضار وسكرات الموت ما هي إلّا مقدّمات، ونحو استعداد وتهيّؤ لدخول بوّابة عالم البرزخ؛ لذا تقوم الملائكة بفصل متعلّقات الإنسان جميعها في الدنيا، من مال وأرزاق وأهل وأولاد، ولا يتركون له سوى الأعمال، كما ورد عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا، وأوّل يوم من أيّام الآخرة، مُثّل له ماله ووُلده وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: والله إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً، فما لي عندك؟ فيقول: خذ منّي كفنك، قال: فيلتفت إلى وُلده فيقول: والله إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فماذا عندكم؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها، قال فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إنّي كنت فيك لزاهداً، وإن كنتَ عليّ لثقيلاً، فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك، حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك"(2).
•لماذا عالم البرزخ؟
إنّ رحمة الله الواسعة تتجسّد في البرزخ، حيث التنقية الروحيّة كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفّرها به، ابتلاه الله بالحزن في الدُّنيا، ليكفّرها به، فإن فعل ذلك به وإلّا أسقم بدنه ليكفّرها به، فإن فعل ذلك به وإلّا شدَّد عليه عند موته ليكفّرها به، فإن فعل ذلك به، وإلّا عذَّبه في قبره ليلقى الله عزَّ وجلَّ يوم يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من ذنوبه"(3).
•البرزخ أرض النقاء
إنّ مرحلة البرزخ أو أرضها من أنقى المراحل التي تمرّ على الإنسان، وهي أنقى من أرض الدنيا، حيث لا معاصي فيها ولا آثام تُرتكب خلالها، بل هي حياة النقاء والطهارة، يُنقّى فيها وُلد آدم من أوساخ تبعات معاصي الدنيا.
لذا يتمنّى المجرم والكافر العودة إلى الدنيا للتوبة، وللعمل الصالح، بعد أن كانوا غافلين عنها عندما كانوا أحياءً؛ لأنّ حبّ الدنيا يُعمي ويُصمّ، والتعلّق بها كان خطأ استراتيجيّاً، لذا نرى عباد الرحمان المخلصين، يرون الدنيا على حقيقتها، فلا نراهم يتعلّقون بها، بل تركوها وطلّقوها، وقد طلّقها أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثاً لا رجعة له فيها، فلا تخدعنّ الدنيا هؤلاء، ولا هم ينخدعون بها.
•البرزخ نعمة ورحمة
البرزخ مفردة من مفردات نِعَم الله تعالى التي ذكرها سبحانه في القرآن: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم: 34)، وهو نعمة للحيّ ونعمة للميّت؛ فإنّ معرفة الحيّ بالبرزخ وتفاصيله تشكّل حافزاً مهمّاً للعمل من أجله، وتبعات أعماله تلك تعود بريعها إليه في البرزخ؛ لذلك تعتبر الحياة مساحة من الوقت للعمل وللتعويض عمّن قصّر في جنب الله، من الواجبات لنفسه، والتعويض عمّن قصّر في حقّه من أحباب أو أصحاب في الدنيا، ولمن أخطأ معه بالاعتذار والتسامح، فالمقصّر مع أبيه وأمّه المتوفّيَين، بقدرته التعويض عن تقصيره بالصدقة أو الاستغفار أو الدعاء لهما.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما الميّت في قبره إلّا كالغريق المتغوّث، ينتظر دعوةً تلحقه من أبيه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كان أحبّ إليه من الدنيا وما فيها، وإنّ هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار لهم"(4). إذاً، إنّ دنيا البرزخ تعتبر فرصة أخيرة، لتصحيح أو تقويم الانحراف الذي تمّ من الحيّ بالتوبة والعمل، وللميّت بإرسال ما ذكرناه له.
وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له"(5).
•هل في البرزخ زمان ومكان؟
تدلّ الآيات القرآنيّة الكريمة، مضافاً إلى الروايات الشريفة، على أنّ في البرزخ زماناً ومكاناً، لكن ليس كزماننا ومكاننا؛ لأنّنا نتعامل في زمن الدنيا باليوم والليلة ولكلّ منهما ساعات، وهما متعلّقان بالشمس والقمر، أمّا البرزخ فلسنا نحيط بتفاصيله، بل أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه أنّ سكّانه يعيشون فيه، ومنه يُبعثون، ولديهم الغداة والعشيّ يُعرض فيهما المعذّبون على جهنّم في الوقتين، قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ (غافر: 46).
فالزمن هناك من نوع آخر، يختلف من حيث النوع والكيفيّة، فمثلاً: عندما يتحدّث سبحانه وتعالى عن "اليوم"، نرى له حسابات مختلفة عن حساباتنا، قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة: 5)، وقال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (المعارج: 4).
•الأموات يطّلعون على الأعمال
قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169-170)، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أعمالكم تُعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأَوا خيراً فرحوا به، وإن رأَوا شرّاً كرهوه"(6).
وعن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قُبضت نفس العبد تلقّاه أهل الرحمة من عباد الله، كما تلقَون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه ليسألوه: ما فعل فلان؟ فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم حتّى يستريح فإنّه خرج من كرب، فيقبلون عليه فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ هل تزوّجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله، قال لهم: إنّه قد هلك، فيقولون: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ذُهب به إلى أمّه الهاوية، فبئست الأمّ وبئست المربّية، فتعرض عليهم أعمالهم فإذا رأَوا حسناً فرحوا واستبشروا، وقالوا: هذه نعمتك على عبدك فأتمّها، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهمّ راجع عبدك"(7).
•مرحلة التصفية
هذا هو عالم البرزخ، عالم آخر بزمانٍ بعضها ببعض ومكانٍ مختلفين، تلتقي فيه الأرواح -التي انفصلت عن الأجساد- ببعضها بعضاً، بانتظار حلول يوم القيامة، يوم تصدر نتائج مرحلة التصفية في القبر، تزور أهلها في الدنيا بأشكال معيّنة، وتتزاور فيما بينها في أوقات محدّدة، وليس في البرزخ من شفاعة، بل هي منحصرة بيوم القيامة، بعد الحساب للمقصّرين من المؤمنين، والنعيم في البرزخ والعذاب بتبعات معاصينا ليس إلّا.
( 1) القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ج1، ص257.
(2 ) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص106.
( 3) بحار الأنوار، المجلسي، ج78، ص177.
(4 ) كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج15، ص749.
( 5) بحار الأنوار، (م.س)، ج2، ص23.
(6 ) المعجم الكبير للطبراني، ج4، ص129.
( 7) نفحات العبير الساري بأحاديث أبي أيوب الأنصاري، ص140، رقم 188.