عندما ضُرب علي عليه السلام في المسجد كان يعلم أنّ حياته مشرفة على الانتهاء فأراد أن يوصي أولاده وأهل الكوفة وجميع المسلمين الحيارى في ذلك العصر ويصدر بياناً مقتضباً يبقى خالداً على مدى التاريخ، وقد تم انتخاب فقرات هذا البيان بدقّة متناهية من قبله عليه السلام. بدأ وصيته بدون أي مقدّمة بالدعوة إلى تقوى اللَّه سبحانه وتعالى "أوصيكما بتقوى اللَّه".
فالتقوى تعني كلّ شيءٍ للإنسان، وهي دنيا الأمّة وآخرتها والزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لا بدّ للبشرية أن تقطعهُ. فالإنسان المتّقي عندما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكر اللَّه ويعود إلى نفسه حالاً بالمراقبة والمحاسبة. وعلي عليه السلام يعلم أنّ الشيطان لن يتركنا أبداً فلا بدّ أن تكون الفقرة الأولى من الوصية هي تقوى اللَّه سبحانه وتعالى. وأخذ بعد ذلك يوصي بالأمور المهمة الأخرى، فقال: "وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما"، هذه هي الفقرة الثانية وهي من مستلزمات التقوى فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا وبالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا. الفقرة الثالثة "ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوي عنكما" أي لا تأسفا على ثروةٍ أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة والرخاء ولا تأسفوا على أي شيء فاتكم من هذه الدنيا الدنية أبداً. الأمر الرابع "وقولا للحق" أو في نسخة أخرى "وقولا الحق" ولا فرق بينهما، ومعناه لا تكتموا شيئاً عندما تعتقدون أنّه حقّ فيجب عليكم إظهاره حينما تدعو الضرورة لذلك. إنّ جميع المصائب حلّت بالمجتمعات عندما قام الذين يعرفون الحق بكتمانه وعدم السعي لإظهاره بل سعوا لإظهار الباطل أحياناً أو جعلوا الباطل حقّاً أحياناً أخرى. وما كان الحق ليظلم لو بادر الذين عرفوه لنشره وإظهاره ولما طمع أهل الباطل في القضاء عليه. الفقرة الخامسة: "واعملا للأجر" يعني الأجر الحقيقي والإلهي. فلا تعمل عبثاً أيّها الإنسان.
إنّ عمرك وعملك وحتى أنفاسك هي رأس مالك الوحيد والحقيقي فلا تفرط به. أتذكّر رواية عن الإمام السجاد عليه السلام يقول فيها: "فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها". فكما يكون الأجر أقل من ذلك فإنّ الغبن سيكون من نصيبنا فلتكن أعمالنا من أجل الأجر الحقيقي وهو الأجر الأخروي. الفقرة السادسة: "وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً" الخصومة غير العداوة؛ فبغض الظالم ومعاداته غير كافية لأنّ الخصومة تعني الأخذ بتلابيب الظالم وعدم تركه. وما يريده أمير المؤمنين عليه السلام هو "كن للظالم خصماً"، فأينما يوجد ظالم يجب على الإنسان أن يضع نفسه موضع الخصومة له.
واليوم نرى أن العالم يغطّ في مستنقع الرذيلة نتيجةً لتركه لهذه الفقرة من وصية أمير المؤمنين عليه السلام. ويؤكّد عليه السلام على الأمر المهم الآخر فيقول: "وللمظلوم عوناً" يعني إذا وجدت مظلوماً فكن عوناً له، لم يقل كن مؤيّداً له بل يقول أعنه بكل ما تستطيع وكلّ ما يبلغه وسعك.
إلى هنا كان الخطاب موجّهاً إلى الإمام الحسن والإمام الحسين عليه السلام، طبعاً هذا لا يختص بهما فقط، فبالرغم من أنّ خطابه كان موجّهاً إليهما إلاّ أن وصيّته عامة تشمل الجميع. العبارات التالية يقولها أمير المؤمنين عليه السلام بصورة عامة، فيقول: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي" فحتى نحن الجالسون هنا مخاطبون بهذه الوصية أيضاً. ثمّ يبدأ بالقسم الثاني من وصيته العامة، فيعود من جديد ليؤكد على أهمية التقوى مرةً أخرى فالتقوى هي الكلام الأوّل والأخير لأمير المؤمنين عليه السلام. وبعد الوصية بالتقوى مجدداً يقول عليه السلام "ونظم أمركم" فماذا يعني بنظم أمركم؟ يحتمل أن يكون معنى نظم الأمر هو عبارة عن إقامة الولاية والحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي. الفقرة الثالثة في القسم الثاني من هذه الوصية "وصلاح ذات بينكم" يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، ولتكن كلمتكم واحدة ولا تتفرّقوا وتختلفوا، ولتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية وحسنة. وبعد هذه الفقرات يبدأ عليه السلام بوصايا أخرى قصيرة وهادفة ومؤلمة فيقول: "اللَّه اللَّه في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يُضيّعوا بحضرتكم" إيّاكم أن تنسوهم، أعينوهم بكل ما تستطيعون. لا تعطوهم يوماً وتمنعوهم يوماً. لا بدّ للمجتمع من الاهتمام بشؤونهم المادّية.
"واللَّه اللَّه في جيرانكم" إنّ ذلك التلاحم الاجتماعي المتماسك الذي أقامه الإسلام طبقاً للفطرة السليمة قد ضاع وللأسف في منعطفات التمدن البعيدة عن الفطرة الإنسانية التي فُطِر الناس عليها. فسنرى كيف يُشفى المجتمع من أمراضه الاجتماعية المزمنة التي يعاني منها. ثمّ يكمل بالتوصية بالجيران فيقول: "فإنّهم وصية نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورِّثهم".
"واللَّه اللَّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم". وهذا عين ما وقع تماماً، فالشعوب المتقدّمة في العالم كان وصولها إلى هذا المستوى من التقدم بفضل الجدّية والدقة في العمل ومتابعته والاهتمام بالوقت وبنوعية الانتاج وخصال أخرى يحبّها اللَّه سبحانه وتعالى وليس عن طريق الفساد وشرب الخمور والظلم كما يتصور البعض. وقد قلتُ مراراً أن التقدّم العلمي لم يكن ليتحقق لولا امتلاك الدول الغربية التي أوجدته لبعض تلك الخصال الحميدة، وإلاّ لكان الدمار من نصيب تلك الدول نتيجةً لظلمها وتعسّفها. إنّ هذه الخصال الحميدة هي التي حفظت تلك الشعوب التي تبنّتها من الانقراض، ولكنّنا تخلّينا وللأسف عن تلك الصفات والخصال فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
"واللَّه اللَّه في الصلاة فإنّها عمود دينكم". "واللَّه اللَّه في بيت ربّكم لا تُخلّوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا" فإن بيت اللَّه تعالى لو أخلي وترك لا يمهلكم سبحانه وتعالى. "واللَّه اللَّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللَّه" إنّ الأمة الإسلامية كانت الأمة النموذجية في العالم طالما كانت قائمة بالجهاد في سبيل اللَّه، ولكنّها أصيبت بالذلّ والهوان عندما تخلّت عن هذه الفريضة الإلهية. ثمّ يقول عليه السلام: "وعليكم بالتواصل والتباذل وإيّاكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم". هذه هي وصية أمير المؤمنين عليه السلام والتي اشتملت على عشرين فقرة تناولت أهمّ القضايا التي اختارها وبيّنها للأمة.