نبيل سرور(0)
يعتبر مصطلح "المحافظون الجدد" أحد العناوين التي طبعت بها إدارة الرئيس الأميركي بوش وفريق عمله القريب جداً منه، وذلك منذ وصولهم إلى سدة الإدارة الأميركية ومركز القرار فيها... وقد أُثيرت الكثير من التساؤلات حول أصول هذه الجماعة التي تربط باستمرار بين توجهاتها وسياساتها وبين الفكر الديني المسيحي والتوراتي في الكثير من الصلات... وما من شك بأن لهذه الجماعة دوافعها الغامضة التي تستبطن بعداً دينياً صهيونياً خطيراً. والخطورة تكمُن في أن هذه الفئة تستغل الفكر الديني لتغطية أهداف مشبوهة تصب في خدمة المشروع الأميركي الصهيوني وتأكيد وجوده ومصالحه في المنطقة والعالم...
وإذا ما أردنا الربط المنطقي بين المنطلقات والرؤى للمحافظين الجدد هؤلاء مع الصهيونية كأيديولوجيا وفكر وعمل سياسي، فإنه ليس من الغريب أن نعلم أن الصهيونية قد استمدت مقوماتها منذ نشوئها حتى الآن من مصادر متنوعة يهودية وغير يهودية، وجمعت بين بواعث عديدة: سياسية وإستراتيجية، وعنصرية واستعمارية ودينية... الخ. ولقد كُتب الكثير حول هذه البواعث والمقومات، ولكن ميداناً هاماً ظل غائباً ومجهولاً، ألا وهو "دور فكر ومؤسسات الأصولية المسيحية" (أو ما تسميها بعض المدارس الكنسية الأميركية بالصهيونية المسيحية) في فتح الطريق وتمهيد الجو النفسي والفكري الملائمين لولادة "الحركة الصهيونية"، ودعمها في تنفيذ مشروعها وحمايته، ودعم تحقيقه وتوسيعه وهيمنته... بالإضافة إلى تعميق النزعة المتحيزة "لإسرائيل" لدى بعض شعوب أوروبا وأميركا، التي تجاوزت المسائل السياسية والإستراتيجية، لتصبح "التزاماً أخلاقياً وروحياً وثقافياً" والتي تدفع بالعقل الثقافي الشعبي وأحياناً الرسمي وخصوصاً في الساحة الأميركية لأن يتحدث عن دولة "إسرائيل" المعاصرة على أنها إسرائيل "العهد القديم" وبعبارات دينية سياسية، وأن يؤمن بتشابه تجربة مطاردة اليهود للكنعانيين في الماضي وللفلسطينيين في الحاضر، لتصبح هاتان التجربتان فلسفة وقناعة أميركية إسرائيلية مشتركة، وأن يعتبر المستوطنات الصهيونية في الأراضي العربية المحتلة "ليست غير شرعية" فالاستيطان تجربة مشتركة أنتجت وجداناً أميركياً إسرائيلياً واحداً...
* تهويد المسيحية في أوروبا
لم يكن (إدوارد كينين) أحد أبرز القيادات الصهيونية اليهودية الأميركية المعاصرة مبالغاً حينما كتب في كتابه (خط الدفاع الإسرائيلي) المنشور في بدايات العام 1986 يقول: "كانت الصهيونية ذات منطلقات ورؤى فكرية مسيحية قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية". وقد تجلت العلاقة بين الطرفين في كثير من أطر التعاون الفكري والتبشيري في الكثير من مناطق أوروبا على مدى القرون الثلاثة السابقة لانتشارها. وقد استمرت هذه الأصولية المسيحية طوال العقود والسنوات الماضية وتجسدت بأشكال مختلفة، كان من أبرزها مرحلة "تهويد" المسيحية البروتستانتية في أوروبا، حيث فسر "الاصلاحيون الحرفيون" وهم فئة مسيحية تقوم على الدعوة إلى الأصولية المسيحية التي انطلقت جذورها من فلسطين "أرض الرب". وقد انتشر فكرها التبشيري في مساحات واسعة من أوروبا مسألة ذهاب اليهود إلى فلسطين بعد المنفى، الواردة في التعاليم الأولى للكنيسة، على أنها "عودة اليهود كاملة إلى أرض فلسطين من أجل التحضير للعودة الثانية للمسيح". كما ساعد كثيراً في منتصف القرن السابع عشر، وخصوصاً في عهد "كرومويل"، الاتجاه العام الذي ساد في المذهب البيوريتاني، والمتعلق بفكرة "إعادة فلسطين لأسلافها العبرانيين" وذهب البعض إلى اعتبار أن "العبرية" هي اللغة الملائمة للصلاة في الكنائس ولقراءة الكتاب المقدس. وفي مطلع القرن التاسع عشر ظهرت مجموعات كنسية أوروبية تنادي بضرورة استعادة اليهود للأرض المقدسة "وأن اليهود هم مفتاح الخطة الإلهية للعودة الثانية للمسيح المنقذ". وخلقت الصلوات والمواعظ والمؤلفات جواً نفسياً ملائماً في أوروبا، لولادة الصهيونية السياسية في أواخر القرن التاسع عشر. وقد كان التأثير الفكري والديني وخصوصاً عقيدة "الحركة البروتستانتية المؤمنة بعودة المسيح" كبيراً على مستقبل الموقف البريطاني السياسي نحو الصهيونية، وإقامة دولة اليهود في فلسطين. حتى أن بلفور صاحب الوعد المشؤوم، إضافة إلى قناعته واعجابه بإقامة دولة لليهود في فلسطين، فإن أطروحات "شعب اللَّه المختار"، "وحقه في أرض الميعاد" وتحقيقه النبوءة التوراتية بتجميع اليهود في دولة إسرائيل بفلسطين، كانت من أبرز معتقداته التي تربى عليها وورثها من طفولته، وتربى ونشأ عليها في إحدى الكنائس الانجيلية السكوتلاندية. ويقول عنه (بيتر جرونز) في كتابه: "إسرائيل في العقل الأميركي": "لقد كان بلفور أكثر فهماً من هيرتزل لطموحات الصهيونية". وتقول عنه ابنة أخته ومؤرخة حياته (بلانش دو غديل): "لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنائس"...
*روح الصهيونية المسيحية في أميركا
لقد انتقلت الدعوة الصهيونية المسيحية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأُسس العديد من الحركات والمؤتمرات التي أصدرت الكتب والمطبوعات التي ترتكز على الفكر الديني في رسم السياسات العامة لقادة الولايات المتحدة وزعمائها... ويبدو أن روح الصهيونية المسيحية في أميركا قد سبقت هذه الدعوات، فهي موجودة منذ تأسيس الدولة الأميركية، فقد كانت المواعظ خلال الحرب الأهلية الأميركية تشبّه أميركا "بالشعب اليهودي الذي يسعى لدخول الأرض الموعودة". كما أن بعض المبشرين البروتستانت أعلنوا: "أن اللَّه اختار الشعب الأميركي كشعب مختار لقيادة العالم وتحضيره". وكان الرئيس الأميركي الأسبق ولسون مثالاً لهذه الصهيونية المسيحية منذ طفولته، فقد نشأ وترعرع في بيئة كنسية، فجداه كانا من رجال الكنيسة الإنجيلية المسيحية، ورأى نفسه من خلال خطبه العديدة "بأنه قد أُعطي الفرصة التاريخية لخدمة رغبات اللَّه بتحقيقه للبرنامج الصهيوني". وكان التزامه بالصهيونية ودعمه لوعد بلفور عميقاً جداً. ومع مطلع السبعينات، واستخدام الكنيسة ومنظماتها الأصولية لوسائل الإعلام الحديثة، وخاصة الإذاعة المسموعة والتلفزة والكمبيوتر والنشرة والمنبر، سجلت ولادة جديدة لحركتها، وسيطرت بقوة على وسائل التأثير على الرأي العام وصنع القرار، وبمقدمات فاشية براغماتية ساعية لأن تكون "التيار المستقبلي" الحاكم للولايات المتحدة.
* شعارات مزيفة
... اليوم يقف "المحافظون الجدد" على رأس الإدارة الأميركية، رافعين كذباً وزوراً شعارات التعاليم المسيحية عنواناً لحركتهم السياسية في سياستهم الدولية التي تستهدف السيطرة على العالم، معتبرين أنهم يؤدون رسالة السلام ونشر العدالة والديمقراطية التي عمل لأجلها وحمل لواءها السيد المسيح عليه السلام. وقد كان تدخل هذا الفريق من أصحاب الرؤى والنظريات المشوهة من المحيطين بالرئيس الأميركي الحالي بوش هو الذي قاد الإدارة الأميركية للتدخل في أفغانستان والبوسنة والعراق وفي أماكن كثيرة من العالم تحت هذا الشعار، وهو يُخفي في مضامينه ما يُخفي من كذب وتشويه للحقائق، وتعمية للوقائع الموضوعية في دلالة على سوء الأهداف وزيف الادعاءات التي يرفعونها، والتي ليس أقلها السيطرة على مقدرات الشعوب والإمساك بقرارها السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني...
* استشعار الخطر
لا بد من أن يُشكل انتشار الصهيونية المسيحية الأصولية، وصعودها على المسرح السياسي والثقافي والإعلامي، وتأثيرها في عقل المجتمع المدني المؤسسي بشكل عام والأميركي بشكل خاص خطورة وقلقاً بالغين. فهذا التيار المشوه للمسيحية يشكل "هرطقة" دينية تسيء إلى المسيحية الصحيحة، وستؤدي فيما تحمله من أفكار ورؤى إلى فتح إمكانيات حدوث صدام ديني في القادم من السنين، خصوصاً مع تنامي الانبعاث الديني في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وانتشار الاقتتال الطائفي في أنحاء من العالم، وتزايد الطموحات الأميركية للسيطرة على العالم، وبخاصة دعمها لإسرائيل في استكمال مشروعاتها التهويدية وتدمير الأماكن المقدسة في القدس، وما تلعبه المنظمات الصهيونية المسيحية من أمثال "السفارة المسيحية الدولية"، ومنظمة "أمناء المعبد"، ومنظمة "الأغلبية الأخلاقية"، وغيرها الكثير في تدعيم السياسات التوسعية والتهويدية الإسرائيلية، وما تمارسه هذه المنظمات من استفزاز للمشاعر الوطنية والقومية والدينية للعرب والمسلمين في شوارع المدن العربية المحتلة أو الساحة الدولية. كل ذلك مدعاة للمتصدرين للعمل العام الرسمي والشعبي في الوطن الإسلامي والعربي وخارجه لاقتحام هذا الميدان، والتعامل معه والحيلولة دون استمرار استغلال الصهيونية للكنيسة سياسياً ودينياً. وفي هذا المجال لا بد من أن نتذكر قول الإمام الخميني قدس سره في هذا الخصوص: "... نحن نعلم أن أمريكا، هي رأس الإرهاب العالمي، وهي التي تدير المؤامرات ضد شعوبنا المستضعفة، وتنهب ثرواتها بعناوين واهية ضعيفة... منها السياسي ومنها الديني الذي لا يرمي إلا إلى دعم الصهيونية والكيان الغاصب... إنهم يريدون بناء إسرائيل الكبرى على أنقاض دولنا وشعوبنا المقهورة...".
(0) ماجستير في العلاقات الدولية.
- آثار الإمام الخميني قدس سره الفكرية: مختارات من أقواله الوصية الخالدة.
- البعد الديني في السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الصهيوني، المؤلف: يوسف الحسن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998.
- اليوميات الفلسطينية، أنيس الصايغ، المجلدان 9 10.
- المسيحيون في الأرض المقدسة، مايكل براير، ترجمة لورنس سمور 1998.
- فلسطين: القضية، الشعب، الحضارة، بيان نويهض الحوت، دار الاستقلال للدراسات والنشر، 1991، بيروت.
- الصهيونية والمسيحية في الفكر الأميركي المتجدد، ديفيد آيسمان، بحث أعد في جامعة كولورادو الأولى، قسم الدراسات السياسية، ترجمة عباس يوسف، لندن 1995.