الاستعداد للدور التربوي
أميرة برغل
بيّنا في الحلقات السابقة ثلاثاً من القواعد التي تمكننا من بناء أسرة سعيدة ومجاهدة. وهذه القواعد هي:
أولاً: تحديد أهداف رسالية للزواج.
ثانياً: اختيار الشريك المنسجم مع هذه الأهداف.
ثالثاً: التعامل بين الشريكين على قاعدة العطاء لا الأخذ، أي على أساس من الرحمة والمودة والإيثار.
وسوف نتطرق في هذه المقالة إلى القاعدة الرابعة والأخيرة وتتعلق بأداء الشريكين التربوي.
فبعد تحديد الأهداف، وحسن اختيار الشريك، والإهتداء إلى أسلوب التعامل الذي يؤمن أجواء السكن الحقيقي داخل الأسرة؛ لا يكتمل البناء إلاّ بتعامل مميَّز مع الأولاد وفق منهج تربوي سليم ومشترك.
فما هي ضرورة وجود أداء تربوي مميز؟ وما هي مستلزماته؟
وعلى من تقع مسؤولية التربية إذا أردنا بناء أسرة سعيدة ومجاهدة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة.
يعتقد البعض أن العملية التربوية عملية فطرية يهتدي إليها الآباء والأمهات بشكل غرائزي والحديث عن منهج تربوي سليم وما شابه تعقيد للأمور وإرباك لا داعي له. ويحتج هؤلاء بأن السلف من الآباء والأجداد ربُّوا أجيالاً ولم يدرسوا التربية في كتب ولا جامعات ولا معاهد. وللإجابة على هذه الشبهة، لا بد من إدراك طبيعة العملية التربوية وتبيان مستلزماتها بشكل عام، ومستلزماتها في هذا العصر بشكل خاص. فالتربية هي عملية التنمية والرعاية والتنشئة التي يجب على الراشدين تقديمها للطفل حتى يكبر ويصبح بدوره راشداً. ولا يصبح الإنسان راشداً إذا نما جسدياً فحسب، بل لا بد من نمو جميع الجوانب الأخرى لشخصيته كالجانب العقلي والجانب المشاعري الانفعالي والجانب الأخلاقي والجانب الاجتماعي... والراغب في تأسيس أسرة سعيدة ومجاهدة لا يطمح إلى تربية أبناء راشدين فحسب، بل إلى تربية أبناء مجاهدين خلفاء للَّه على وجه الأرض، وهذا ما يتطلب، بالإضافة إلى جوانب النمو السابقة، نمواً روحياً مميزاً. وتربية الإنسان، بما أنها عملية تنمية لمخلوق حساس ومفكِّر، لا تتم بالجبر والقوة بل بالإقناع والمحبة، ولا تتم دفعة واحدة بل بالتدرج، ولا تتم كما نرغب بل بحسب القابلية الموجودة لدى من نربي. فالتربية إذاً عملية تراكمية تستلزم من أجل نجاحها، بشكل عام، التزام المربي بثلاثة أمور:
1 - أن يؤديها بمحبة؛ الأمر الذي يتطلب منه دافعيَّة وصبراً.
2 - أن يكون ملماً بالقابليات الموجودة لدى الطفل في مراحل عمره المختلفة في جوانب النمو كافة؛ فكما أن الولد لا ينمو جسدياً دفعة واحدة فهو أيضاً يتدرج في نموه العقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي...
3 - أن يخصص الوقت الكافي للعملية التربوية؛ فالتربية لا تتم، كما يعتقد الكثيرون، بمجرد الوعظ أو التهديد أو الترغيب، بل بالتعليم الحقيقي، أي التعليم المشتمل على التدريب وهو ما يتطلب من المربي مسألتين:
أ - تجسيداً عملياً لما يريد أن يربي عليه ولده، أي أن يكون قدوة له.
ب- تكثيف وجوده بجانبه حتى يستطيع أن يدربه بالتدريج وفي الوقت المناسب.
أما في عصرنا الحاضر، بشكل خاص، فلا يخفى على المطلع على التعقيدات التي آلت إليها ظروف الحياة البيئية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية... إدراك صعوبة توفير أجواء النمو السليم للأطفال والشباب. إذ حتى التربية الصحيّة والجسدية التي قد تعتبر من الأمور البديهية أصبحت في عصر تلوث البيئة والتدخل في قوانين الطبيعة وما نتج عنه من تعديل في الجينات الوراثية للنبات والحيوان بحاجة من الأهل لمزيد من الاطلاع والدراية وتخصيص وقت لتأمين الغذاء الصحي والوقاية اللازمة.
أما التربية العقلية والفكرية فقد أصبحت في عصر الثورة العلمية والكم الهائل من الاكتشافات والتطور المذهل في أساليب المعلوماتية؛ بحاجة لمناهج تعليمية ذكيَّة، تعلِّم الأولاد كيف يحصلون على المعلومات وكيف يستخدمونها أكثر مما كيف يحفظونها. الأمر الذي يتطلب من الأهل مواكبة أولادهم في استعمال الأساليب التكنولوجية الحديثة وإلاّ فقدوا موقعهم التوجيهي بالنسبة لهم. أما التربية الانفعالية والاجتماعية، فهي في زمن التغيُّر والتبدل السريع لمنظومة القيم والضغوط الاجتماعية والاقتصادية؛ بحاجة لاطلاع ودراية من الأهل على أساليب التواصل والحوار وأطوار النمو الأخلاقي والضبط التربوي للأولاد. أما التربية الإيمانية والجهادية، فهي في عصر العولمة وغزو الفكر المادي لمجتمعاتنا، ورواج ثقافة الراحة والشهرة والاستهلاك والإباحية؛ بحاجة لملء فراغ الأولاد بنشاطات مفيدة وممتعة عبر مؤسسات تعليمية ونوادٍ اجتماعية ورياضية أو كشفية تؤمن للأولاد الظروف المناسبة لنموهم الروحي بالإضافة إلى بناء خبراتهم العلمية والعملية والاجتماعية بعيداً عن أجواء التأثر بالمفاهيم المادية الفاسدة. وهكذا يتبين لنا أن مهمة التربية، في عصرنا الحاضر، بحاجة لإعداد واستعداد مسبق، وأنه، من الخطورة بمكان التصدي لها بطريقة عشوائية، وما صح في العصور السالفة من تربية عفوية للآباء والأجداد لم يعد ممكناً في زماننا. لذا، فالشريكان الراغبان في تأسيس أسرة سعيدة ومجاهدة وإنجاب أولاد "يثقلون الأرض بلا إله إلا اللَّه" كما ورد في الحديث الشريف عن الباقر عليه السلام: "ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً (زوجة) لعل اللَّه يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا اللَّه" لا بد لهما:
أولاً: من إعداد نفسيهما مسبقاً لمهمة التربية عبر الإطلاع على مراحل النمو العمرية وخصائصها وحاجات الأولاد منها، مستفيدين مما ورد في الأحاديث الشريفة وما كشفته البحوث والتجارب العلمية المنسجمة مع هذه الأحاديث.
ثانياً: من الاستعداد النفسي والعملي لهذه المهمة؛ إذ أن تربية الأولاد عمل شاق يحتاج إلى صبر وتضحية. والوالدان، من أجل إعطاء هذه المهمة حقها، بحاجة بالإضافة إلى حبهما الفطري لاستعداد نفسي ودافعية، كما أنهما بحاجة أيضاً لاستعداد عملي.
ولا يتحقق الاستعداد النفسي إلاّ باطلاعهما على ثواب هذا العمل وخطورة عواقبه في آن. فالأحاديث الشريفة تتحدث عن عقوق للوالدين كما تتحدث عن عقوق للأولاد وعلى من ينجب ولداً أن يستعد لمساءلة اللَّه يوم القيامة عن حسن تنشئته وتأديبه. جاء في الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "ميراث اللَّه من عبده المؤمن ولد صالح يستغفر له". ولا يتحقق الاستعداد العملي إلاّ من خلال التدريب على بعض أعمال الرعاية والتربية قبل الزواج، لإدراك ما تطلبه من صبر ووقت وتحمل. ولقد كانت المناهج المدرسية وطبيعة الحياة الاجتماعية، في السابق، تفسح المجال أمام تدريب الفتية والفتيات على بعض الأعمال المتعلقة بالحياة العائلية، الأمر الذي كان يسهم في إنجاح الكثير من الزيجات. أما اليوم، فإن تخلي المدارس عن هذه المهمة وتكثيف الدروس بشكل حال أيضاً دون إمكانية تدريب الأولاد داخل العائلة، ترك فراغاً كبيراً في هذا المجال، الأمر الذي يجعل الكثير من الأزواج يعيشون، بعد الإنجاب، أزمة نفسية وتذمراً ومحاولة للهروب من تحمل أعباء ومسؤوليات التربية عبر وضع الأولاد في الحضانات، من دون داعٍ، أو من تلزيمهم إلى الخادمات.
ثالثاً: من التوافق على منهج مشترك في التربية. فإن واحدة من أهم مسلتزمات نجاح العملية التربوية هو اتباع الوالدين لمنهج تربوي مشترك وسليم. وهو ما يتطلب من الزوجين التداول حول النظريات التربوية والنقاش حول ما يراه كل منهما صحيحاً ومنسجماً مع الإسلام؛ ولا مانع، في هذا المجال، من استشارة المختصين في هذه العلوم، حتى تتقارب وجهات نظرهما، قدر الإمكان، قبل تصديهما للعمل التربوي واختلافهما أمام الأولاد.
رابعاً وأخيراً: من تحمل مسؤولية التربية معاً وبالتساوي. فمسؤولية التربية واجب شرعي على كلا الأبوين، ولقد أثبتت التجارب ما أكدته الأحاديث الشريفة من مسؤولية كلا الأبوين التربوية. فالأولاد بحاجة لوجود كلٌ من الأم والأب على حدٍ سواء فلكل منهما دور، ولا يغني وجود أحدهما عن وجود الآخر.
لذا لا بد من أن يستعدا معاً لما يجب أن يُدخلاه من تعديلات على برامجهما في حال رزقا أولاداً. فقد تضطر الأم للتخلي عن وظيفتها أو عن المشاركة في عمل تطوعي تحبه، وقد يضطر الأب للتضحية بفرصة عمل خارج البلاد أو منصب يتوق إليه من أجل إعطاء الأولاد حقهم في التربية والرعاية. إن النمو المتوازن لشخصية الولد، بنتاً كان أم صبياً، لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل ينبوع للتضحية والعطاء ومصدر للسلطة في آن. وإن من أكبر الأخطاء الشائعة في مجتمعاتنا إلحاق مهمة التربية بمهمة الواجبات المنزلية وتلزيمها للمرأة فقط.