حسن زعرور
يقول مثل لبناني "أينما يريد الفاخوري "يضع أذن الجرّة"، وأميركا فاخوري هذا العصر، تضع أذن الديمقراطية في المكان الذي يخدم أهدافها مستهدفة الأمم التي لا تخضع لها، أما حلفاء أميركا الديكتاتوريون فتلك مسألة أخرى، عين أميركا عنهم عوراء، وإعلام العالم "الحرّ" أعمى.
* جردة حساب
ذاكرة التاريخ لا تشيخ، وحقائقه لا يطالها النسيان، وحده الإنسان تلهيه أحداث يومه عن عبرة ماضيه، وهي عبرة لو سألنا الحكمة عنها لأجابت: أن من لا يحسن قراءة ماضيه لن يحسن صناعة مستقبله، لقد قامت أميركا باسم الحرية والديمقراطية بتدمير واحتلال عشرات الدول وقتلت شعوبها، وغيّرت تكوينها الإنساني والاجتماعي والجغرافي إلى الأبد، وحوّلت مسارها الطبيعي الحضاري، إلى بؤر متواصلة للثورات والانقلابات والديكتاتوريات متلطية خلف شعارات نبيلة لأهداف غير نبيلة، في ظلِّ إعلام مضلِل وشعوب مضللة، تدفع ثمن ازدهار أميركا وبحبوحة اقتصادها، وسيطرة قوتها العسكرية التي ذبحت ملايين الأبرياء في الأرجنتين عام (1809)، تشيلي (1891)، هايتي (1891)، نيكاراغوا (1894)، الصين (1895)، كوريا (1896)، باناما (1895)، نيكاراغوا (1896)، الصين (1898)، الفلبين (1898)، كوبا (1898)، بورتوريكو (1898 ولا تزال محتلة حتى اليوم(، غوام (1898)، نيكاراغوا (1898)، باناما (1901)، هوندوراس (1903)، الدومينيكان (1903)، كوريا (1904)، كوبا (1906)، نيكاراغوا، هوندوراس، باناما، الصين (1911)، مكسيكو (1913)، هايتي (1914)، باناما (1918)، يوغسلافيا (1919)، غواتيمالا (1920)، تركيا (1922)، السلفادور (1932)، إيران (1946)، الأوروغواي (1947) اليونان (1949)، ألمانيا (1948)، الفلبين (1948)، لبنان (1958)، فيتنام (1960) )قتلت أميركا فيها مليوني فيتنامي باسم الديمقراطية(، كوبا (1961)، لاوس (1962)، باناما (1964)، أندونيسيا (1965)، غواتيمالا (1966)، كمبوديا (1983)، عُمان (1970)، لاوس (1971)، تشيلي (1973)، أنغولا (1976)، ليبيا (1981)، السلفادور (1981)، غرينادا (1983)، إيران (1984)، ليبيا (1986)، الصومال (1992)، البوسنة (1993)، هايتي (1994)، كرواتيا (1995)، السودان (1998)، أفغانستان (1998)، العراق وجرحه المفتوح منذ عام 1992 والذي تركت ديمقراطية أميركا فيه عشرات آلاف القتلى حتى اليوم.
* القفاز المخملي
إختلاق الشعارات الهادفة إبداع أميركي، وإقناع الآخرين بها عن طريق التركيز الإعلامي يحجب الأهداف الحقيقية لأميركا، غير أنه لا يصعب لذي عقل تتبع الوسيلة ومعرفة الغاية، يقول الرئيس الأميركي تيودور روزفلت "تحدثوا إلى العالم برقة، واحملوا معكم دائماً بلطة ضخمة ولسوف تصلون بها إلى أبعد مدى، لأن أمركة العالم قدرنا"(1) فهل يحتاج الأمر إلى شرح؟ أما الرئيس الأميركي وليم ماكنلي فقد اعترف أنه "كان يجثو كل ليلة سائلاً اللَّه أن يهديه، وأخيراً هداه اللَّه إلى احتلال الفلبين بهدف رفع مستوى الشعب الفلبيني وإعادتهم إلى حقيقة الإيمان المسيحي" وكلفت عملية هداية الشعب الفلبيني 600 ألف قتيل فقط على أيدي الجنود الأميركيين، أما الرئيس الأمريكي ألبرت بيفردج فيؤمن "أن اللَّه اصطفى الأمة الأميركية من بين كل الأمم وفضلها عليهم وجعلها شعبه المختار ليقودوا العالم" وهو إيمان يشاركه فيه معظم قادة أميركا من سياسيين وعسكريين ومنهم الرئيس الأميركي ولسن "نحن نتبع أوامر يسوع وحملاتنا الحربية مباركة ومقدسة"(2) ونيكسون "اللَّه يريد أن تقود أميركا العالم"(3). إن الاستغلال البشع للمثاليات الدينية والإنسانية من قبل قادة أميركا يهدف ببساطة إلى احتلال الدول وفتح أبوابها أمام الاستعمار الاقتصادي الحديث "إن برنامج المعونات الخارجية التي نقدمها حيوية بالنسبة لتحقيق أهدافنا"(4) كما يقول وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز في عهد الرئيس ريغان، فهل يحتاج الأمر إلى عبقرية لفهم الأهداف الأميركية؟ أم أن قفاز مخمل الديمقراطية الأجوف يحجب عن أعيننا الحقيقة؟
* تجارب وعبر
عندما رفض رئيس نيكاراغوا "زيلايا" الخضوع للاحتكارات الأميركية الساعية للسيطرة على القناة المزمع شقها وعلى مناجم الذهب والزراعة دبّر الأميركيون عليه انقلاباً قاده "أدولفو دياز" وقتل زيلايا (عام 1909) بينما سيطر الأميركيون على اقتصاد البلاد بالكامل وفي عام 1912 قامت ثورة شعبية ضد "دياز" قمعها الجيش الأميركي بقسوة مع خلق المبررات المناسبة بالطبع. في عام 1925 قامت ثورة بقيادة الجنرال أوغستينو ساندينو وسيطر على البلاد، وفي عام 1934 شن عليه الجيش الأميركي هجوماً بحجة تحرير نيكاراغوا. واجه ساندينو الاجتياح الأميركي بحرب عصابات استمرت حتى عام 1934 نتيجة دعم الشعب له، غير أن الأميركيين قبضوا عليه وأعدموه، وعينوا مكانه أكثر الديكتاتوريين وحشية في تاريخ البلاد "اناستازيو سوموزا غارسيا" ولم يسأل أحد أين ذهبت هذه الديمقراطية التي كانت سبباً لاحتلال نيكاراغوا. عام 1850 اتفقت أميركا وبريطانيا على شق قناة بنما واستثمارها. لم تكن بنما موجودة بعد وكانت أرضاً كولومبية، وفي عام 1903 رفض البرلمان الكولومبي المنتخب من الشعب "اتفاقية هيران" التي تتيح لأميركا السيطرة الكاملة على القناة، واعتبر الرئيس الأميركي روزفلت أن قرار البرلمان الكولومبي "إهانة لأميركا من الفاسدين الكولومبيين"(؟!) وقام بإرسال الأسطول الأميركي لرد الإهانة، وتحت حمايته تحوّل إطفائيو منطقة القناة الذين اشترتهم أميركا إلى جيش نظامي سمي "بجيش بنما". لم يجرؤ الكولومبيون على التدخل وجرى سلخ منطقة القناة عن الوطن الأم وحولت إلى دولة لا تزال أميركا تشرف على قناتها حتى اليوم، ولتحيا ديمقراطية أميركا. في العام 1913 أصبحت المكسيك ثالث دولة نفطية في العالم واستثمر الأميركيون فيها مبلغ ملياري دولار بعملة تلك الأيام داعمين ديكتاتورها دياز بكل قوة. ويذكر الرئيس الأميركي وليم تافت في رسالة إلى زوجته أنه "سوف تتعرض استثماراتنا للخطر إن مات دياز أو أطيح به". كان خوف الرئيس الأميركي على مصالح أميركا أما الديمقراطية فلتذهب إلى ..... في عام 1911 قامت ثورة شعبية أطاحت بالديكتاتور دياز، وتولى الرئاسة فرنشيسكو مورو الإصلاحي الديمقراطي، غير أن أميركا دبّرت عليه انقلاباً قاده رجل العصابات "هويرتا" فأُعدم مورو على الفور وحكم هويرتا المكسيك بوحشية فثار عليه الشعب المكسيكي وتحت حجة إعادة الديمقراطية احتل الجيش الأميركي المكسيك كلها عام 1913 وفي عام 1917 ثار الشعب المكسيكي على الأميركيين وتمكن القائد الشعبي "كارانزا" من تحرير بلاده، غير أن الأميركيين دبروا عليه انقلاباً وأعدم عام 1920.
أما غواتيمالا فقد شهدت أطول مراحل ديكتاتوريات الذين عينتهم أميركا: كارير، بريوس، كابررا، خورخي، كاستانيدا، بينما شهدت هندوراس مئة حكومة وانقلاب بين العام 1839 والعام 1950 نتيجة إدخال الديمقراطية الأميركية إليها. وفي كوبا سنت أميركا قانون "بلات" الذي يحدّد "أن كل حجر وكل ذرة رمل في كوبا هي من التراب الأميركي". أما الدومينيكان فقد عجزت عام 1916 عن دفع دين للولايات المتحدة بذمتها واحتلها الجيش الأميركي لسنوات تحت حجة استيفاء الدين(5)، وعيّن الأميركيون الديكتاتور رفايل مولينا منذ عام 1930 حتى عام 1961 فقتل الآلاف من شعبه بوحشية وقسوة من دون أن يتحرك ضمير أميركا الديمقراطي. أما في هايتي فقد تولى الأميركيون الحكم فيها عقدين من الزمن بعد احتلالها وفي تشيلي قامت أميركا بانقلاب على رئيسها الوطني سيلفادور اليندي المنتخب من الشعب وعينت مكانه ديكتاتور العصر بينوشيه وفي نيكاراغوا أقامت حكم الديكتاتور سوموزا، ونظام باتستا الدموي في كوبا، وروخاس بينيللا الوحشي في كولومبيا، والديكتاتور أدريا في البيرو، وشتر سنر في الباراغواي وفي عام 1954 أطاحت أميركا بالرئيس الغواتيمالي جاكوبوارينز بحجة إخراج غواتيمالا من الإرهاب الشيوعي ونشر الديمقراطية فيها، وكان أن عينت مكانه الديكتاتور كارلوس أرماس الذي أدخل بلاده في الفقر والمجاعة لصالح الشركات الأميركية بحيث أن دخل الفرد لم يعد يتعدى الدولار الواحد، وفي عام 1953 دبرت أميركا انقلاباً على مصدق "لأنه أراد تأميم عائدات إيران النفطية"(6). ولو أردنا إحصاء جرائم حكام أميركا المرتكبة باسم الحرية والديمقراطية لاحتجنا إلى مجلدات ضخمة طولها ميل واحد على الأقل. لقد حولت أميركا الدول التي تدخلت بشؤونها باسم الديمقراطية إلى بؤر مشتعلة حتى تظل مصانع السلاح الأميركي تعمل بانتظام لخير الاقتصاد الأميركي، فهل أدخلت أميركا الحرية والديمقراطية إلى دولة واحدة على الأقل كي نذكر لها ذلك شاكرين؟!
* آن لنا أن نفهم
سامحوني، إذا ربحت أميركا فإنها ستدمر البشرية، وستواصل الأرض دورانها ككوكب المريخ الميت(7). إن النظام الأميركي نظام مسيطر يتسم باللامساواة وتحتضر فيه الديمقراطية(8). إن نبذ أميركا لأبسط حقوق الإنسان لا يضاهيه سوى ازدرائها للديمقراطية(9). ضمائر حية تنشد الحقيقة ويحجبها ضجيج إعلامي مخادع وقادة أميركيون بعيدون عن المثاليات الإنسانية والفضائل البشرية الحقيقية "جورج بوش لا تخجل، هناك 60 مليون أميركي مثلك لا يحسنون القراءة والكتابة بمستوى البالغين"(10). إن من لا تبكي عينه على جراحات الآخرين لن يفهم معنى الحرية والديمقراطية أبداً، خصوصاً إن كان مثل بوش لا يحسن قراءة المشاعر الإنسانية النبيلة! وآن لنا أن نفهم.
(1) كارل ديشنر، المولوخ إله الشر.
(2) المصدر السابق، ص42.
(3) ميشال بوغنون، أميركا التوتالتيارية، ص224.
(4) فرنسيس مورلابيه، الجوع في العالم، ص128.
(5) منير العكش، ديمقراطية أميركا.
(6) اندرو تولي، حقيقة الجاسوسية الأميركية.
(7) يواخيم فرناو، رحمتك يا اللَّه، ص336.
(8) ايمانويل تود، ما بعد الامبراطورية، ص42.
(9) نعوم تشومسكي، الهيمنة أم البقاء، ص10.
(10) مايكل مور، رجال بيض أغبياء، ص61.
(_) الفاخوري: صانع الجرار.