حسن زعرور
تبدو دولة العدوّ للناظر اليوم في أوجّ مجدها، أنظمة العالم الغربيّ والعربي تطلب ودّها، الإعلام على اتساعه رهن إشارتها، الشعوب الغارقة في مشاكلها لاهية عن أفعالها. غير أن ذلك كله ليس إلا قشرة سطحية تحجب الحقيقة التي يعرفها قادة الدولة العبرية قبل سواهم، فالنهاية تلوح في الأفق، والعدّ العكسي قد بدأ.
* نقاط على الحروف
سؤال يفرض نفسه، لماذا يصرّ شارون على الصلح مع العرب في هذا الوقت بالذات؟ قبل الإجابة لا بد من التذكير أن "إسرائيل" ولدت من رحم "الحلم التوراتي" الذي يحدد أن أرضها "من الفرات إلى النيل" وهو مفهوم فرض عدم وضع حدودٍ للدولة حتى اليوم بانتظار تحقيق الحلم الموعود. غير أن انهزام "إسرائيل" أمام حزب اللَّه في جنوب لبنان غيّر المعادلات وأدخل مفهوم "الدفاع" بدل "الهجوم" في الفكر الإستراتيجي القتالي الذي كان يعمل به جيش العدو، وأكملت الانتفاضة ترسيخ التوجّه. لقد أظهر الخروج المذلّ من لبنان، والعجز عن إنهاء الانتفاضة أن "إسرائيل" غير قادرة على لعب الدور الإقليمي الذي أعدت له بالأصل، وكان السبب الرئيس وراء قيامها، وأن جيشها القادر على هزيمة الجيوش العربية عاجز عن السيطرة على شعوبها، بدليل عدم قدرته لأربع سنوات على إنهاء الانتفاضة أو القضاء على حزب اللَّه من قبل، فكيف يمكن له السيطرة من النيل إلى الفرات إذاً؟ ثم إن فرض الصلح على الأنظمة العربية بضغط أميركي لا يعني السلام والأمن "لإسرائيل" على المدى الطويل، وهي معادلة ظرفية واهية قد تنتهي عند أي تغيير إن في الأنظمة العربية أو في الموقف الأميركي، ولأن الشعوب العربية في المجمل تعيش الكره لها من جيل إلى جيل ويمكن ملاحظة هذا الكره وازدياده حتى في الدول التي أقامت صلحاً معها. والدولة العبرية لا تزال منذ قيامها حتى اليوم تعيش على الإعانات، وهي ترسانة عسكرية استعمارية متقدمة، كما أنها مصنع أسلحة للغرب، ومع أن ميزانيتها تبلغ 114 مليار دولار (ضعف الدول العربية كلها) فإنها لم تمتلك بعد المقومات الحقيقية التي تبنى عليها الدول، وأي وقفٍ أو انخفاضٍ في المعونات المرسلة إليها سيكون له وقع مدمر، وهي تباشير تلوح في الأفق، من مثال ما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية: فقد بلغ العجز التجاري الأميركي 450 مليار دولار، وتحولت أميركا من دولة "واهبة" إلى دولة "ناهبة" للثروات والرساميل العالمية، في محاولة لوقف الانهيار "نحن بحاجة إلى مليار دولار يومياً لتغطية العجز المقلق"(1). كان نفط العراق الأمل المرجو أمام قادة أميركا للخروج من المأزق، غير أن ما يجري في العراق حالياً على المستوى الأمني واستمراريته، يزيد من حجم المعاناة الأميركية، ولا بديل إلا بتخفيض النفقات والمعونات، وسوف تكون إسرائيل المتضرر الأول من ذلك، وهذا دافع آخر للصلح مع العرب. أضف إلى ذلك أن دولة العدو خسرت امتيازها "كقاعدة أميركية متقدمة في الشرق"، واستعيض عنها بقواعد أميركية أخرى انتشرت في العالم العربي وأوروبا الشرقية، أقل كلفة منها، وبخدمات مجانية من قادة وحكام تلك الدول، نذكر منها:
مطار بغداد والطليل وH-1 وباشور في العراق(2)، ويبني الكويتيون أضخم قاعدة أميركية في الشرق تدعى "أريفجان"، وقاعدة السليلة )(مقر العمليات الحالي) في قطر، وقاعدة الظفرة في الإمارات، وقواعد "مسيرة وسيب وثمرايت" في عُمان، وباغرام وقندهار وخوست ولورا ومزار شريف وبولي قندهار في أفغانستان، وفازياني وفرجستان وهاناس في جورجيا، وقريش وخاندباد وكرزيسي في بولندا وميهايل كوغالينسينو وباباداخ وكونستانزا في رومانيا، وبيزميرغراف في بلغاريا، وسارافوفو ونوفوسيلو وأجيا وبورغاس وقواعد في ألمانيا وبريطانيا.
* الشرخ
عندما استقدم "الفالاشا" من أفريقيا، أثير حولهم ضجيج إعلامي صاخب هدف إلى حث بقية يهود العالم على الهجرة إلى إسرائيل غير أن المجتمع اليهودي العنصري الذي يسيطر عليه يهود أوروبا (40% من السكان) رفض دمج الفالاشا في بيئته، لأنهم من العرق الأسود ولا يزالون يعاملون ويعملون كخدم، كما منعوا من إقامة "كنس" عبادة لهم، لأن "الحاخامية اليهودية العليا" رفضت اعتبارهم من اليهود، هذا الفشل انعكس سلباً على محاولة دولة العدو جلب مليون هندي بحجة أنهم من اليهود، كان هدف الدولة الاستغناء عن اليد الفلسطينية العاملة في أراضيها المحتلة، واخفاء الشرخ الذي يهدد الوجود اليهودي كله. في عام 1948 كان عدد اليهود في العالم (16,500) مليون يهودي، وفي عام 1967 أصبح (13,837) مليون، وفي عام 1982 أصبح (12,988) مليون وفي عام 1992 أصبح (12,913) مليون(3)، منهم 5،6 مليون في الدولة العبرية بعد أكثر من خمسين عاماً من قيامها. في عام 2004 نشرت استطلاعات تعمية تدعّي أن عدد يهود العالم بلغ 14 مليوناً بمن فيهم يهود الهند، معترفة أن نسبة التراجع العام بلغت 6% وأن الفوارق بين الشباب والكهول بين الشعب اليهودي مؤشر خطر. لقد فرض التطور الحضاري للأمم نفسه على اليهود أقله من هذه الناحية، وبات من المستحيل إقناع الفرد اليهودي الأوروبي أو الأميركي بزيادة نسله عن ولدين أو ثلاثة للحد من التراجع العددي البشري اليهودي ونتائجه المستقبلية على وجود الدولة العبرية، فماذا سيكون عليه الوضع بعد عشرة أعوام أو عشرين عاماً على أبعد تقدير يا ترى؟ كما أنه وعند إقامة "إسرائيل" روج عن أنها ستكون واحة استقرار ليهود العالم، وحولتها الانتفاضة إلى "واحة جحيم"، الخسائر الإسرائيلية البشرية لا يمكن تعويضها، المالية 5 مليارات، البطالة 13%، القطاع السياحي انهار، مئات المصانع توقفت عن العمل، إنخفاض نسبة المهاجرين إليها 45%، المهاجرون منها إلى فرنسا وألمانيا تحديداً مليون مهاجر معظمهم يرفض العودة. ويشرح جاد برزيلاي أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب خطورة ما يجري بقوله "إن كثيراً من الإسرائيليين استعادوا جنسية الدول التي قدموا منها، وإن فكرة قيام إسرائيل في مكان آخر بدأت تظهر للعلن" نتيجة اليأس اليهودي، يأس يتحدث عن أثره الكاتب الإسرائيلي سيغربلوتسكر "اليهود يُقتلون، يموتون ينزفون، ويخافون، متحدثين عن كارثة وشيكة ونهاية وضياع ويعيشون رعباً يومياً"(4)، وهو رعب دفع ستة ملايين يهودي أميركي "للإندماج الكلي" في المجتمع الأميركي على حساب السود والهسبانيك، رافضين الهجرة إلى إسرائيل نهائياً، وسط عجز الحكومة الإسرائيلية عن إثارة موضوع اللاسامية مخافة النزاع مع أميركا، وإثارته في فرنسا علّها تجلب اليهود الفرنسيين، مدركة أنها استنزفت اليهود في أنحاء العالم ولم يعد لديها المزيد.
* الرعب الإسرائيلي الداخلي
فساد قادة الدولة العبرية لم يعد سراً، وسرقتهم للمنح والمساعدات باتت مادة يومية للصحافة العبرية قبل سواها "من سنة لأخرى تصبح إسرائيل فاسدة أكثر فأكثر وتلك ظاهرة خطيرة تقضم أساسات الدولة"(5). ما يلفت النظر أمران، الأول أن هؤلاء القادة يستثمرون الأموال المسروقة خارج الدولة العبرية، وفي أوروبا بشكل خاص، فلماذا؟ والثاني أن الشعب اليهودي لا يبدي أي رد فعل لفساد حكامه مع أن 69% منه مقتنعون أن قادتهم لصوص(6)، من دون أي رد فعل أو مساءلة منهم لتغيير الوضع، لماذا؟ لأن الشعب اليهودي فقد الثقة بمستقبل الدولة العبرية، ويقول الكاتب اليهودي ألياكيم هعشني "أن عدم مبالاة الشعب الإسرائيلي بفساد حكامه يقلق أكثر من الفساد بحدّ ذاته". قد تكون شهادتنا هذه مثار جدل عند البعض وهؤلاء نحيلهم إلى عينة من مئات العينات التي ترشح يومياً في كتابات ومقالات صحفيين ومفكرين إسرائيليين عن النهاية القادمة، يقول المفكّر ارييه الداد "إن الدولة تتلاشى والصهيونية على شفير الافلاس" ويقول الكاتب يفئال سيرينا "إن إسرائيل سائرة إلى الخراب". وأما ياعيل غبيرتيس فيؤكد "إن السد قد خرق"، وأن "نهاية إسرائيل باتت متداولة أكثر فأكثر" كما يؤكد الباحث مانغريد جرستنفيلد(7)، وأن "حائط إسرائيل الحديدي" قد انهار كما يقول الكاتب رؤوبين ريفلين، ولقد "تلاشت الدولة ودفنت تحت نوع من الأمم اليهودية" كما يقول ريتشارد بن كريمر، و"لست أعرف في أي بلدٍ سيعيش حفيدي" كما يقول دبلوماسي سابق، و"أنا قلق على بقاء الدولة، هناك إحساس عام بالحيرة، والتفكك، وضعف الإرادة الوطنية"(8)، و"لقد أشاح اللَّه بوجهه عنا"(9). و"من الأفضل لنا العيش في الدياسبورا (المهجر) إذ ما الفرق بين الموت في دبابة ميركافا أو في معسكر أوشفيتز(10)؟
للمرة الأولى منذ احتلال فلسطين تقوم الدولة العبرية ببناء جدار "دفاعي" في ارتداد بالغ الأهمية نحو مفهوم "الأمن الغيتوي" الذي كان يلجأ إليه اليهود سابقاً في الدول التي كانوا يعيشون فيها، أصبحت "إسرائيل اليوم" "غيتو يهودي كبير" يحاول قادته إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهل فهمنا لماذا يريد شارون الصلح مع العرب الآن بكل قوته؟ لأن العدّ العكسي قد بدأ!
(1) مقالة بعنوان خيانة الرأسمالية جريدة نيويورك ريفيو أوف بوكس وجريدة لوموند نقلاً عنها.
(2) تيم ديلاي، أميركا وبريطانيا والقواعد في العراق.
(3) الكتاب السنوي الأميركي اليهودي، عدد 1994.
(4) سيغر بلوتسكر، افتتاحية يديعوت أحرونوت.
(5) افتتاحية يديعوت أحرونوت 2004 - 10-20.
(6) استطلاع شركة TNS تلسيكر ومنظمة غالوب معاريف 2004 - 11-30.
(7) مقالة مستقبل إسرائيل، كتاب الكيان الصهيوني، مركز باحث للدراسات.
(8) القاضي موشيه لاندو، يديعوت أحرنوت 2000 - 11- 6.
(9) جان هلد، كتاب رحلة في قلب إسرائيل، ص189.
(10) المصدر السابق، ص179.