الشيخ حسين زين الدين
يقول أمير المؤمنين عليه السلام:"أشرف الغنى ترك المُنى". كثيراً ما نذهل في أجواء الصخب والضجيج عن تصويب اهتماماتنا بما ينسجم مع سعادتنا الحقيقية ونتلهى دون التفات بما تفرضه ضرورات الحياة، فحاجات الدنيا لا تنتهي إلا بالموت. وفي عالمٍ تملؤه المغريات ويحكمه التنافس على استلاب إرادة الإنسان نقف شبه عاجزين عن المواجهة، لا لأننا لم نمتلك مقدرات المقاومة أو افتقر تراثنا لثقافة التوازن بل لأننا انسقنا شيئاً فشيئاً إلى ما فرضه المنتجون وروّجته الدعاية والإعلان ومالت إليه نفوسنا بافتقار وبالتالي ما اعتبره عُرفنا ومجتمعنا واعترفنا به لحاجةٍ وضرورة وهو في الحقيقة لا يَعْدُو كونه أمراً كمالياً يمكن إسقاطه عن عرش قيمته الثمينة بمجرد الاستغناء عنه.
فإن حاجاتنا تكبر بقدر أمانينا وكلما صغرت الأماني قلّت الحاجات. لا تظنن قارئي العزيز ولو للحظة أنني أدعو إلى الصوفية والافتقار الاختياري، لا، بل أودُّ الإسهام شيئاً ما في الكشف عن حقيقة مفهوم الغنى الاختياري لكي تكون في متناول جميع الناس مواجهة الفقر المادي وتأثيراته النفسية والتربوية السلبية التي فرضتها نظم الاقتصاد والسياسة في العالم. وللغنى بهذا المعنى مراتب أيضاً، فبعضه أشرف من بعض وأشرفه ترك المُنى والقناعة والاستغناء النفسي، لا السعي إلى عدم التملّك. وبعبارةٍ أخرى الزهد الحقيقي الذي يجتمع مع التملّك والفقر الماديين على حدٍّ سواء. وبتعريف سيد البلغاء علي بن أبي طالب عليه السلام: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما الزهد أن لا يملكك شيء".
فنكون بذلك أغنياء بغير ملك وزهاداً مالكين وقد وردت في بعض النصوص طريقة لتربية النفس على تحصيل هذه الخصلة الحميدة وهي أن ينظر الإنسان في أمور الدنيا إلى من هو دونه وفي أمور الآخرة إلى من هو فوقه. وهكذا يتحرّر الإنسان من عبودية السلعة ويسعى إلى امتلاكها بداعٍ آخر لا يأسره في سجنها كداعي التوسعة المستحبة على النفس والعيال والأرحام والأصدقاء أو امتثالاً لوصايا الشريعة المقدسة التي حضّت على العمل والجدّ في كسب المعاش واعتبرت الكادّ على عياله كالمتشحط بدمه في سبيل اللَّه أو حفظاً للعزّة والكرامة المودعة في نفس المؤمن. ولا يبقى فرقٌ بين السعيين إلا أن أحدهما يملكه ما يسعى إليه فهو المحتاج دوماً والأسير دائماً وأما الآخر فإنه يملك ما يسعى إليه وهو القادر على عتقه إذا أبق من بين يديه، فمقياس الغنى هو الإحساس بعدم الحاجة لا الاقتناء مع تمني الاقتناء.