موسى حسين صفوان
* لماذا الشرق الأوسط الكبير؟
وهل هو مشروع إسرائيلي سياسي، برعاية أميركية وغربية بوجه عام، أم أنه مشروع أميركي بامتياز، يصب في جزء منه في خانة المصالح الإسرائيلية؟ وهل هو مشروع استعماري هيمنوي، يهدف إلى السيطرة على ثروات المنطقة في إطار مشروع سياسي عسكري، ترشح عنه تداعيات ثقافية واجتماعية وبالتالي حضارية؟ أم هو مشروع حضاري بامتياز، يدافع عن آخر معاقل الحضارة الغربية أو بعبارة أخرى، عن أهم فرصة تتيح لهذه الحضارة إمكانية الاستمرار لقرن آخر؟ لا شك أن مسألة الفصل بين ما هو ثقافي وحضاري، وبين ما هو اقتصادي وسياسي تعتبر أمراً بالغ الصعوبة، خاصة إذا كان الحديث يتناول الحضارة الغربية التي لا يمكن فهم أي من مفرداتها الثقافية والحضارية إلا من خلال المعطيات الاقتصادية وبالتالي السياسية... وليس نكرة القول، إن الحضارة الغربية بكل مفرداتها ومؤسساتها تقوم على تدفق الثروات، والموارد الطبيعية الأولية من البلدان الفقيرة الغنية بالموارد الأولية والثروات الطبيعية إلى البلدان الصناعية الغنية التي يطلقون عليها، الدول المتقدمة.
من هنا، وحيث يصعب التفكير بحدٍّ فاصل بين الفعل الثقافي، والفعل السياسي، نعيد طرح السؤال من جديد:
لماذا الشرق الأوسط الجديد، وما هي الرؤى والأبعاد الحضارية والثقافية التي تخدم المشروع الاستعماري الأميركي والغربي عموماً؟ وللإجابة على هذا السؤال، علينا بداية أن نستبعد إجاباتٍ، بل مقولاتٍ تدّعي أميركا من خلال مشروعها لإعادة رسم خريطة المنطقة أنها تعمل من أجلها، بيد أن الممارسات الأميركية عينها وفرت على المراقبين الكثير من التحليلات واستقصاء المعلومات... فأميركا أولاً لا تهدف إلى نشر "قيم" الديمقراطية في المنطقة فقد دأبت ولعقود طويلة، وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على مصادرة قرارات وخيارات الشعوب في المنطقة من خلال دعم وتأييد الأنظمة الديكتاتورية، ومحاربة حركات التحرر الثورية والديمقراطية، ويبدو أنها لا تزال تمارس هذا الدور، والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة. وأميركا ثانياً، لا تريد أن تدافع عن حقوق الإنسان المهدورة بواسطة من تسميهم الحكام الديكتاتوريين، فهي ذاتها حولت ودعمت أولئك الحكام ما داموا يشكلون دعامة لمشاريعها الإمبريالية، وهي عينها، وفي أقل من سنة على دخولها العراق، نموذجاً، هدرت حقوق الإنسان بأبشع ما يمكن أن يتصوره العقل البشري السليم... وأميركا ثالثاً لا تريد أن تبحث عن أسلحة الدمار الشامل من أجل عالم أكثر أمناً واستقراراً، فهي نفسها التي باعت من خلال وكلائها وعملائها آلاف الأطنان من الأسلحة الكيميائية والجرثومية للمجرم صدام من أجل استخدامها ضد الشعب الآمن في العراق وإيران، وهي نفسها ما تزال تزود إسرائيل بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة المحرمة دولياً من أجل الاستمرار في سحق الشعب الفلسطيني، ومصادرة حريته وكرامته وأرضه، وهدم بيوته... وأميركا رابعاً، لا تريد أن تؤسس لنظام عالمي جديد قائم على العدالة والمساواة، وتتمتع فيه المؤسسات الدولية بالهيبة والفعالية، فهي لا تزال ومنذ نهاية الحرب الباردة على أثر سقوط الاتحاد السوفييتي، تعمل على مصادرة قرارات وصلاحيات الأمم المتحدة ومؤسساتها، وخاصة محكمة العدل الدولية ووكالة الطاقة النووية، وغيرهما من المؤسسات التي شاركت في رعاية إنشائها في النصف الثاني من القرن الماضي لأهداف سياسية ترمي إلى تحجيم وتطويق دور الدول التي لا تسير في فلكها... واليوم، وبعد انتهاء دورها المرسوم لها أصلاً، أصبحت هذه المؤسسات عبئاً ثقيلاً على مشاريع أميركا التسلطية، وليس أدل على ذلك من استخدامها الفيتو عند كل قرار يدين العنصرية الإسرائيلية، وتمنُّعها عن توقيع المعاهدات الدولية التي تضعها على قدم المساواة مع باقي دول العالم، فهذه الدولة الجبَّارة المتسلطة مصرَّة على الظلم وانتهاك حقوق البشر بذريعة قوتها، وقوة أساطيلها ومدمراتها... وبعد...
فما هي إذاً، الأبعاد الاستراتيجية لتأسيس "الشرق الأوسط الكبير" في منطقة مشحونة بالمتناقضات والمشاكل والنزاعات؟ وأين تكمن مصلحة أميركا بالذات في هذا المشروع؟
للإجابة على ذلك، لا بد من فهم الأسس الأيديولوجية، والرؤى الاستراتيجية التي تنطلق منها الحضارة الغربية عموماً، والمشاريع "الإمبريالية" الأميركية على وجه الخصوص... والخوض في هذا المجال يحتاج إلى مجالات أوسع بكثير مما هو متاح هنا، ولكن نكتفي بإشارات لتعطي فكرة عامة...
أولاً: تبين دورات "كوندراتيف" Kondratieff(1) أن العالم منذ الفترة ما بين 1967 و1971 يعيش فترة ركود اقتصادي ويشهد إعادة الهيكلة لنهوض الدول الأوروبية واليابان على حساب ريادة الولايات المتحدة الأميركية. وإذا عرفنا أن فترة الانتعاش الاقتصادي السابقة التي بدأت عام 1945 - 1940 واستمرت حوالى الثلاثة عقود، كان عنوانها البتروكيماويات والآليات التابعة لها... نستطيع أن نلمح العلاقة ما بين تاريخ بداية الكساد العالمي الحالي والتطورات السياسية والعسكرية في منطقتنا التي شهدت في ذلك التاريخ حربين ما بين العرب وإسرائيل...
ثانياً: تحدد نظرية "ماكيندر" Mackinder. للأسس الجيو بوليتيكية والتي تعتبرها دوائر القرار الغربية الركيزة الأولى للفكر العسكري، والأساس الاستراتيجي لفهم التاريخ(2)، تحدد "المحور الجغرافي للتاريخ". فتقسم العالم إلى منطقة محورية يطلق عليها منطقة القلب التي يحيط بها هلالان، الهلال الداخلي والهلال الخارجي. المهم أن منطقة القلب هذه تكون دائماً بؤرة التوتر ومصدر الحركات السياسية الكبيرة، وقد حدَّد أصحاب نظرية صدام الحضارات هذه المنطقة بمقولة "التحالف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الكنفوشيوسية"، أي من تحالف العالم الإسلامي والصين، وفي قراءة اقتصادية وسياسية لهذه المنطقة التي تساوي أكثر من ثلث الكرة الأرضية يمكننا أن نفهم حقيقة المخاوف الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا فإن الشرق الأوسط الكبير سوف يحول العالم الإسلامي من "منطقة القلب" التي تثير القلق، وتصدر بين الحين والآخر الثورات والحركات الانقلابية الكبيرة، إلى منطقة الهلال الداخلي الذي تحكم القوى العسكرية الأميركية السيطرة عليه كما كانت تفعل إبّان الحرب الباردة حيث أحكمت طوال عقود ثلاثة سيطرتها على الدول المحيطة بالاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل حينها "منطقة القلب" وبؤرة التوتر.
ذلك هو باختصار مشروع الشرق الأوسط الكبير... ولا شك أن مثل هذا المشروع يحمل في تفاصيله الكثير من المفردات الثقافية والاقتصادية فضلاً عن العسكرية. والنتيجة واحدة: محاولة إطالة عمر الهيمنة الأميركية والغربية عموماً لتجاوز مرحلة الكساد من خلال تدفق ثروات البلدان الصغيرة النفطية خصوصاً واستمرار النزاعات والحروب في المنطقة لضمان استمرار تدفق الصناعات التسليحية إلى المنطقة... والسؤال من جديد... أين يمكن أن نجد الديمقراطية وحقوق الإنسان من بين كل ذلك الركام؟!!
(1) عالم المعرفة، الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، الرقم 282، الجزء الأول تأليف بيتر تيلور وكوفن فلنت، ترجمة عبد السلام رضوان ود. إسحاق عبيد، ص39.
(2) المصدر نفسه، ص101 - 99.