منهال الأمين
المشاكل الاجتماعية هي قاسم مشترك بين كل المجتمعات البشرية، ولأسباب متعددة تختلف من مكان إلى آخر. ومؤسسات المجتمع الأهلي تقوم بدور كبير وحساس في مجال التخفيف عن المواطنين المحتاجين للمساعدة الاجتماعية والصحية والتربوية وحتى الثقافية. في لبنان مثلاً، نلاحظ انتشار المؤسسات الأهلية التي تعنى بمسألة التكافل والتكاتف الاجتماعي وتحض على أن يرعى الناس بعضهم بعضاً. ومنها بالخصوص تلك التي تنتمي إلى الوسط الإسلامي، حيث أن الإسلام أولى هذه المسألة عناية خاصة وحث المسلمين، استحباباً ووجوباً، على التكافل والتكاتف فيما بينهم. ولقد زخر مجتمعنا بهذه المؤسسات والجمعيات التي تحمَّلت الكثير من المسؤوليات والمهام عن الجهات الحكومية، ونمت وازدادت الحاجة لها مع الوقت لا سيما خلال فترة الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي للبنان. وقد اعتمدت هذه الجمعيات بشكل رئيسي على ما يصطلح عليه بالمال الشرعي بأوجهه المتعددة "خمس، كفارات، نذورات، صدقات، زكاة الفطرة..." فكان لهذا المال دورٌ كبيرٌ في استمراريتها وفعاليتها على الساحة الإسلامية. فكيف كان ذلك؟ فالحقوق الشرعية في أصل التشريع جاءت لتساهم في معالجة المشكلة الاقتصادية التي يمكن أن توجد في أي مجتمع، لأن أي مجتمع مبني على التفاوت بين أفراده.
* جمعية الإمداد الخيرية الإسلامية - لبنان
هذه المؤسسة التي تعمل قريبة من واقع وحاجات المستضعفين وصناديقها ومشاريعها منتشرة حولهم، ساهمت بشكل كبير في التخفيف من معاناة المساكين والفقراء والمعوقين والعجزة والأيتام، وهؤلاء هم مضمار عملها الأساسي الذين يستفيدون من تقديماتها التي تعتمد بشكل رئيسي على الأموال الشرعية التي يعتبر مدير عام الجمعية الحاج علي زريق أنها لو تسنى استثمارها بالشكل المرسوم لها وقام كل مسلم بما يتوجب عليه في هذا المجال، فإن المجتمع الإسلامي سيكون من أرقى المجتمعات البشرية من حيث التكافل الاجتماعي والاكتفاء الذاتي. ولكن هل المال الشرعي غير كافٍ لملاحظة آثاره واضحةً على حياة الناس في المجتمعات الإسلامية؟ على العكس تماماً يقول زريق ويضيف: إن الخلل في التطبيق وليس في التشريع، لأن الإسلام ضمن مصادر تمويل أعمال الخير، بل وحتى فرض بعض مواردها كالخمس والزكاة، ولو أخذنا مسألة الكفارات فقط فإننا نجد أنها تؤدي دوراً مهماً في إطعام الفقراء، لأنك تجد شريحة واسعة تدفع الكفارات أكثر من أي فريضة أخرى. ولسبب وآخر يمتنع الكثير من المكلفين عن دفع ما يتوجب عليهم من حقوق شرعية فيؤثر ذلك على حجم الاستفادة.
* المال الشرعي في جمعية الإمداد
ويشير مدير عام جمعية الإمداد: نستطيع القول أن الجمعية "تطير بجناحين": الأول هو جناح صندوق الصدقة الذي ينتشر في كل الأماكن (حوالي 46600 صندوق) وكفالة الأيتام، والجناح الثاني هو الحقوق الشرعية وما يندرج تحتها من عناوين (الخمس، الزكاة، الكفارات، النذورات والتبرعات...). وعن موارد صرف هذه الحقوق وكيفية مساهمة المال الشرعي في مشاريع الجمعية الخيرية، يقول الحاج علي زريق: ساهم جزء كبير من هذه الحقوق في إنشاء مشاريع الإمداد المتنوعة والتي خصت بها الجمعية المناطق الأكثر حرماناً في الضاحية والبقاع وعكار وكسروان (مدرسة الإمام الخميني الكفاءات، ثانوية الشهيد بجيجي مشغرة، مدرسة الإمام علي عليه السلام المعيصرة فتوح كسروان، مدرسة الإمام الباقر عليه السلام رشكيدا البترون، إضافة إلى مركز التعليم المهني. وهذا العام سيتم افتتاح مجمع أهل البيت عليه السلام زقاق البلاط). وهناك مشروع لافت قامت به الجمعية وهو استيعاب المتسربين من المدارس والذين لا يحملون شهادات، فقد عمدت الجمعية إلى إقامة برامج تأهيل وتدريب مهني خاصة لهم لكي يلتحقوا بسوق العمل أو حتى ليتابعوا الدراسة إن كان ذلك ممكناً، وأيضاً هناك مشروع إنشاء مصح عقلي. وكذلك الجمعية في طور التحضير لإنشاء نادٍ للمسنين ولكن ليس على طريقة دار العجزة، وإنما يتضمن برامج ثقافية وترفيهية طيلة النهار ومن ثم يعود المسن ليبيت في منزله أو منزل أولاده، وبذلك يظل الترابط الاجتماعي بين المسن وأهله قائماً. وهذا أمر أساسي تحرص الجمعية على مراعاته وهو أن يستفيد صاحب الحاجة ضمن أسرته، فاليتيم يلقى كل الدعم المادي والصحي والتربوي وهو في بيته وليس في المياتم أو المبرات، رغم تقدير دور هذه المؤسسات في العمل الخيري في لبنان.
* جمعية الإمداد.. من تساعد؟
يقول الحاج علي زريق: جمعية الإمداد تعنى بكل من لا معيل له ولا كفيل من أيتام، معوقين، عجزة، مرضى أمراض مزمنة، عائلات السجناء، عائلات المدمنين، وحتى في بعض الحالات وضمن ضوابط معينة عائلات العملاء، فنحن نسعى للحفاظ على الأسرة من التفكك والانهيار والتخفيف من حدة غياب المعيل ورب العائلة. من هنا نجد كم يلعب المال الشرعي دورًا في التكاتف الاجتماعي من خلال هذه الجمعية، التي تعمل على الساحة اللبنانية منذ أكثر من 20 عامًا ولا زالت ترفع الحيف عن الأفراد والعائلات المستضعفة والمحتاجة، مرتكزة بشكل أساسي على ما يصب في صندوقها من حقوق شرعية واجبة ومستحبة. وهناك الكثير الكثير من النماذج التي يمكن أن نحصيها في عداد المستفيدين من خدمات الجمعية، ومنها على سبيل المثال رجل كان يعاني من مرض السكري وقد أصيب بشلل أجبره على التنقل بالعربة كرسي متحرك ولما لم يكن له من معيل ولا كفيل اضطر للتسول على الطرقات. الجمعية احتضنت الرجل وقدمت له كل ما يلزمه من مسكن وأثاث وملبس، وعهدت به إلى جيرانه الذين كانوا يرعونه من خلال معاش شهري تصرفه الجمعية، وكانت حالة الرجل تزداد سوءًا رغم كل العناية الطبية التي أمنتها الجمعية أيضاً، وقد اضطر الأطباء إلى بتر قدميه. فماذا يا تُرى كان حال هذا المسكين لولا وجود مؤسسة راعية كالإمداد تعتمد بشكل رئيسي على الحقوق الشرعية!؟.
* الجمعية الخيرية لمساعدة جرحى ومعاقي الحرب في لبنان (مؤسسة الجرحى)
هذه المؤسسة لها دور كبير في عملية التكاتف الاجتماعي، إذ إنها ترعى شريحة من الناس ذوي أوضاع خاصة، دفعوا أغلى ما عندهم في سبيل الدفاع عن الأمة والمقدسات وحملوا على أجسادهم آثارًا لا تنمحي أعاقت الحركة عند البعض أو ذهبت بالبصر عند آخر أو سببت إعاقة دائمة في حالة أخرى. فكان حرياً بالمجتمع المقاوم أن يحتضن هؤلاء ويقدم لهم كل غالٍ ورخيص. ويؤكد الحاج علي الجواد مدير عام مؤسسة الجرحى على هذه الحالة من التكاتف والاحتضان من قبل المجتمع الأهلي تجاه الجرحى. وتسعى المؤسسة لتنظيم هذه العملية من خلال مساهمات الأفراد والمؤسسات عبر التبرعات والاشتراكات الشهرية والحقوق الشرعية التي تشكل أحد مصادر التمويل لأعمال المؤسسة. وقد أجاز الوكيل الشرعي للإمام الخامنئي في لبنان للمؤسسة استلام الحقوق الشرعية من خمس وغيره للاستفادة من المال الشرعي في رفع نوع وكم الخدمات التي تؤديها للجرحى الأعزاء. عن دور هذا المال الشرعي في خدمات المؤسسة يقول الحاج علي الجواد: آلية العمل في المؤسسة في مجال جمع التبرعات المالية تتركز على الاشتراكات الشهرية أولاً وهي بحدود 500 مشترك و200 مؤسسة تجارية، وهي تساهم بشكل كبير بمد المشاريع والنشاطات بالمصاريف اللازمة. (مشروع جويا الرعائي الصحي، افتتح مؤخرًا وبلغت كلفته حوالي 650 ألف دولار تم تأمينها من الاشتراكات، ومشروع الفردوس الدويرغطت الاشتراكات أكثر من نصف تكلفته وهي حوالي المليون ونصف دولار ). ثانيًا هناك الحقوق الشرعية التي يرد إلى المؤسسة جزء لا بأس به منها إلا أنه لا يغطي أكثر من 55 من مصاريف المؤسسة (مع الاشتراكات). وتجدر الإشارة إلى أهمية الاشتراكات والتبرعات الشهرية التي تشكل جزءًا لا بأس به من حركة وعمل المؤسسة وإن كان غير كافٍ إلا أنه مهم وأساسي، ونأمل مستقبلاً أن تتطور مساهمة المال الشرعي في رعاية هذه الفئات المجاهدة من المؤمنين. أما المشاريع التي قامت بها المؤسسة من خلال هذه التقديمات، فتسعى المؤسسة لتوسيع رقعة المشاريع الخاصة بها والتي تعود بالنفع على الجرحى، من خلال أهدافها الانتاجية، وبالأساس من خلال الخدمات التي تؤديها للجرحى، بعضها منجز والبعض الآخر قيد الانجاز كمجمع جويا التأهيلي للجرحى والمعوقين ومشروع الفردوس التأهيلي الترفيهي الدوير وبيت الجريح في دورس البقاع وبيت الجريح بيروت ومركز العباس للعلاج الفيزيائي ومركز العباس للأطراف الاصطناعية. ويؤكد الجواد على أمر مهم جدًا وهو موضوع تزويج الأخوة الجرحى وخاصة أصحاب الحالات الحرجة، حيث لمسنا تقدم الكثير من الأخوات المؤمنات بمبادرة شخصية للزواج من جرحى ذوي حالات صعبة. وقد قامت المؤسسة بكل ما يلزم لدعم هذه المشاريع المباركة من منزل وأثاث وغير ذلك. وما كان لنا أن نقوم بهذا الدور لولا أن المؤمنين يأخذون من أموالهم ما يزكيهم ويبذلونه في سبيل دعم هذه الأهداف السامية".
* جمعية مؤسسة الشهيد الخيرية الاجتماعية
هناك أمران أساسيان يستقطبان موارد ومصارف الحقوق الشرعية برأي سماحة الشيخ يوسف عاصي المعاون الثقافي في مؤسسة الشهيد، وهما الحاجة والفقر ومسألة ترويج الشريعة. أما ما يتعلق بالمؤسسة فإنها تتصدى لرعاية فئة مهمة من المجتمع وهم المتعلقون بالشهيد: الأب، الأم، الزوجة، الأولاد، وقد تكفلت المؤسسة بكل احتياجاتهم ومتطلباتهم واستجازت في أخذ الحقوق الشرعية لهذه الغاية معظم المراجع العظام كالسيد الخوئي رضي الله عنه وآية اللَّه الخامنئي دام ظله والسيد السيستاني، نظرًا للتكلفة العالية والمصاريف الكثيرة. ويضيف الشيخ عاصي أن المؤسسة استفادت أيضًا من هذه الحقوق لإقامة مشاريع ومؤسسات تعتبرها تهدف إلى ترويج الدين وتحصين الوضع الإسلامي على الساحة اللبنانية ورفده بالطاقات والمشاريع الانمائية الملحة كمستشفى الرسول الأعظم ومستشفى الشيخ راغب حرب ومدارس شاهد (المهدي حاليًا)، وتركزت المشاريع في الجانب الصحي: مستشفيات، مستوصفات، معهد تمريض... وعن الطرق المتبعة في المؤسسة لتحصيل الحقوق الشرعية ونسبة مساهمة المال الشرعي في تغطية نفقات المؤسسة يقول الشيخ عاصي: طريقة حصولنا على الحقوق الشرعية وطريقة صرفها، كانت في اتباعنا الطلب من المراجع العظام الإجازة في أخذ الحقوق الشرعية وعُمِّمت هذه الحالة بين الناس المكلفين، ولكن في البداية لم يكن هناك تجاوب كبير مع المؤسسة. مع الوقت وبعد أن أطلقت المؤسسة مشروع تكفل أبناء الشهداء، حاولنا الاستفادة من الحقوق الشرعية في هذا المشروع.
* ولكن كيف كان ذلك؟
بعض الذين يتكفلون أبناء الشهداء شهريًا بمبلغ معين، أحيانًا قد يتعرضون لظروف مالية تمنعهم من التلبية الشهرية، وفي نفس الوقت يكون قد استحق عليهم حقوق شرعية، فيحولون الكفالة إلى هذه الحقوق ويدفعونها إلى المؤسسة تغطية للكفالة الاعتيادية. ونسبة الحقوق عبر الكفالات قد تتجاوز ال15% من مصاريف المؤسسة، والباقي كفالات عادية وتبرعات واشتراكات شهرية. ويضيف الشيخ عاصي بأن الأسلوب الأساسي المعتمد في المؤسسة هو التواصل المباشر مع أهل الخير ونسج علاقة منظمة وثابتة معهم، بحيث يصبحون جزءًا من أسرة العاملين فيها، وتؤمن مساهماتهم إما تحت عنوان الاشتراك الشهري وقيمته مفتوحة وإما بعنوان كفالة إبن شهيد وقيمته محددة. ويؤكد عاصي أن مشروع التكفل كانت له آثار غير متوقعة لا سيما على الأشخاص المتكفلين، إذ كانت فرصة لكثير منهم لينفتح على الحالة الإسلامية ويتقدم على المستوى الديني والالتزام بالأحكام الشرعية، نظرًا للارتباط الوثيق الذي نسج ما بينه وبين المؤسسة وعوائلها.
* أخيرًا ماذا لدى المؤسسة من تطلعات ومشاريع مستقبلية؟
على مستوى المشاريع قد يكون الوقت غير مناسب حاليًا لتنفيذ أي منها وإن كان هناك طموح كبير للكثير منها. ولكن تدأب المؤسسة لرفع مستوى التقديمات الاجتماعية لعوائل الشهداء كمًا ونوعًا ولتشمل الإخوة والأخوات والأهل بشكل أفضل. بيت مال المسلمين: القرض الحسن.. يسر للتمويل والاستثمار.. عنوان بيت المال يعيدنا إلى التجربة الرائدة للإمام علي عليه السلام في إدارة وتنظيم الوضع المالي في الدولة الإسلامية التي تسنى له حكمها لمدة خمس سنوات فقط للأسف. ولكن التجربة التي تستلهم هذا الشعار تجدها حاليًا ترفعه كتراث ليس أكثر كما يقول مدير بيت المال الحاج حسين الشامي ويضيف: عندما انطلقت الفكرة منذ أكثر من 20 عامًا كانت تجربة الإسلام الأولى نموذجًا يحتذى لأصحاب الفكرة. ويقضي المشروع - الحلم بأن تنظم عملية جباية الحقوق الشرعية بكل مواردها، للاستفادة منها في حل مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية والتربوية عبر هذا المال الشرعي الذي هو دين في عنق المستطيعين ألزمهم به المشرع لكي يكون عونًا لمن قدر الله تعالى عليه رزقه، على تخطي مصاعب الحياة. فلا يكون الزواج والمأكل والمشرب والملبس كل همه وينصرف عن أمور دينه الأساسية والمصيرية.
أما ما آلت إليه أمور بيت المال فيما بعد فيلخصها الحاج حسين الشامي بما يلي:
الخدمات التي يؤديها المركز للناس مهمة جدًا، إذ إنه يؤمن قروضًا ميسرة للناس وبدون فوائد، إنما نستفيد من اتساع دائرة التداول المالي للمؤسسة بازدياد عدد المشتركين. وفي الحقيقة فإننا لا نأخذ أية حقوق شرعية، بل نعتمد بشكل رئيسي على أموال الناس المودعين والمشتركين والمقترضين الذين بإمكانهم أن يصبحوا من أسرة بيت المال عبر اشتراكهم في الصندوق بمبالغ بسيطة جدًا. وعلى الرغم من هذا فإن المؤسسة ساهمت عبر هذه الموارد المالية المحدودة في تقديم خدمات جليلة لأهلنا الكرام، وبأعباء مالية تكاد تكون شبه معدومة وبعيدًا عن أي مورد للربا والفائدة وغيرها من أمور تثقل كاهل المقترض في مؤسسات مالية أخرى. فهناك القروض الشخصية والقروض الاستثمارية وحسب حاجة المقترض، مع وجود شروط هي أيضًا ميسرة وبسيطة بالمقارنة مع حجم الاستفادة. هذه إضاءة ربما تكون غير كافية على موضوع حيوي وأساسي في حركة الاقتصاد الإسلامي وهو المال الشرعي، موارد جمعه وصرفه وكيفية الاستفادة منه كركيزة أساسية في عملية التكافل الاجتماعي والتكاتف ما بين المسلمين. وهي تجربة لا زالت تفتقر للآليات الصحيحة في التعامل معها وكذلك لم تتوفر الأرضية الملائمة لها رسميًا إلا في نطاق محدود. والحديث واضح إذ يؤكد أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء مؤونة الفقراء وكذلك ما متع غني إلا بما شقي به فقير.