لقاء مع سماحة الشيخ علي جابر
حوار: سهام حيدورة
حينما يستيقظ الواحد منَا بعد غيبوبة الظلم والظلمات ويقف لحظة بينه وبين نفسه فيجدها قد لبست ثوب مرارة الذنوب وخذلانها، وانزلقت في مطبات حالت بينه وبين تحقيق هدفه المنشود، يستشعر الأسى والندم فيلجأ إلى اللَّه تعالى غفّار الذنوب مخاطباً إيّاه في حياء "إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي" طالباً منه العون في توبة نصوح لا ارتداد عنها... ويأتيه الجواب من الرحمن الرحيم ﴿...لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾... ولكن هناك حقوقاً للناس عليه تقف عائقاً بينه وبين لباس التوبة... سميت بالمظالم، فكيف يتخلّص الإنسان منها؟؟ وما هي الآثار التربوية والاجتماعية والأخروية لردِّ المظالم على الفرد وعلى المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على سماحة الشيخ علي جابر:
* كيف نعرّف ردّ المظالم؟ ولماذا كان ردّ المظالم واجباً من واجبات الدين؟
المظالم جمع مظلمة وهي كلّ ما أُخذ ظلماً أي بغير حق فيجب ردّه، وردّ المظالم من الواجبات الدينية التي نص عليها الفقهاء سواء شعر الإنسان بدنو أجله وقرب موته أم لا، لكن يتأكدّ ذلك مع دنو الأجل وظهور إمارات الموت والسبب في اعتبارها من الواجبات الدينية هو الحفاظ على العدل في حياة الناس الذي يقتضي وصول كل حقٍ إلى صاحبه، سواء كان مادياً أو معنوياً.
* هل يسقط هذا الحكم مع مرور الأيام أم لا؟
إنّ الحقوق الثابتة في الشريعة الإسلامية لا تسقط بمرور الزمن كما هو الحال في القانون الوضعي، لأنّ الزمن لا يصلح للإسقاط في ذاته، وإلاّ لزم فوات الكثير من الحقوق. بل المسقط أحد اثنين: اللَّه تعالى الخالق للإنسان والمانح لهذه الحقوق، وصاحب الحق، وإذا لم يتدارك الإنسان حقه الفائت في الدنيا فإنّه يناله في الآخرة، وهذه إحدى الأسباب الموجبة عقلاً كما يقولون لوجود يوم القيامة.
* هل ارتبط موضوع ردّ المظالم بقبول أعمال الفرد الأخرى وعباداته؟
لا شك أن الظلم يمنع قبول عمل الإنسان عند المولى تعالى فالقرآن الكريم يقول ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ (آل عمران: 57) وإذا كان الظالم مبغوضاً عند اللَّه تعالى لجهة ظلمه فكيف يقبل عمله وإن كان العمل صالحاً في ذاته؟! ويقول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: "الجور ممحاة"، أي أنه يمحو الحسنات وكل أعمال الخير التي يأتي بها الظالم، وفي المقابل فإنّ ردّ المظالم وإرجاع الحقوق إلى أهلها يزيل هذا المانع ويفسح الطريق أمام قبول العمل الصالح.
* ردّ المظالم ليس بالسلوك الهين، ما هي المقدمات التي تجعل من الإنسان قادراً على هذا العمل؟
طبعاً من لم يعوّد نفسه على العدل سيجد صعوبة في ردّ الحقوق إلى أهلها، وخاصة إذا كان شديد التعلق بالدنيا، ولذلك فإن على كل إنسان يسعى ليعدل مع الناس ويستثقل ذلك أن يلتفت إلى أمرين:
الأول: عواقب الظلم الوخيمة في الدنيا قبل الآخرة، حيث يقول الإمام علي عليه السلام: "من ظلم قصم عمره ودمر عليه ظلمه".
والثاني: تذكر عدل اللَّه تعالى، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أذكر عند الظلم عدل اللَّه فيك وعند القدرة قدرة اللَّه عليك"، لعلّ الإنسان يخجل في هذه الحالة التذكرية من فعله القبيح أمام جميل فعله تعالى فيه.
* كيف يتخلص الإنسان من المظالم التي ارتكبها في حياته صغيراً كان أم كبيراً؟
من خصائص نظام الحقوق في الإسلام أن ثبوت الحق يستدعي فيه الصغير والكبير، ولا يتوقف على كون من عليه الحق بالغاً سناً معينة أو حالة معينة بصورة دائمة وفي كل الحقوق، فإن الولد الصغير لو كسر زجاج نافذة لشخص يضمن قيمته، وعليه تأدية هذا الحق ولو بعد حين، من هنا على الإنسان أن يسعى في كلِّ مراحل حياته للتخلص من المظالم التي قد يكون ارتكبها مع الآخرين، فيعيد كل حق إلى صاحبه.
* ماذا لو عجز المرء عن إدراك من ظلمهم أو إرجاع ما اغتصبه؟
هناك أحكام تفصيلية بهذا الخصوص، فإذا عرف أن لفلان الحق الفلاني عليه لا يدري كم هو، تخلص من ذلك بالتصالح وإبراء الذمة. وأما لو عرف الحق ولم يعرف صاحبه، أو لم يتمكن من ارجاعه إليه لسبب ما، ولو بالاحتيال، تصدّق بمقداره على نية صاحبه، أو استغفر له كما جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله: "من ظلم أحداً ففاته فليستغفر اللَّه له فإنه كفارة له".
* هل يمكن للفرد أن يتجنب ردّ المظالم ويستعيض عن ذلك بالتصدّق في الحالتين مع وجود الحرج ومع عدم وجود الحرج؟
لا يصح التصرّف بالحق مع القدرة على إعادته إلى صاحبه بدون حرج ويتعيّن عليه إيصاله إليه.
* ما هي آثار ردّ المظالم التربوية (ارتباطه بالتوبة)؟
لا شك في تأثير هذا السلوك على الجانب الروحي والتربوي فحينما يلتفت الإنسان في وقت من الأوقات إلى الأفعال التي صدرت عنه ومدى صحتها من الناحية الأخلاقية والشرعية وثم بعد المراجعة يصوّبها ويعيد ما أخذه بغير حق، في تجارة أو معاملة أو علاقة اجتماعية إلى صاحبه، فإنّ ذلك يكشف عن أنه قد شعر بالندم لأخطائه وقرّر معالجتها وتصحيحها وهو ما نسميه التوبة. ونقصد بالتصحيح تصويب علاقة الإنسان مع خالقه أولاً ومع أخيه الإنسان ثانياً، وفي مثل الحقوق المالية والمعنوية للناس التي أخذت بغير حق لا تكفي التوبة إلى اللَّه تعالى، بل يجب إعادة الحق وطلب المسامحة من صاحبه، وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سمع أحدهم يستغفر: "أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معانٍ: أوّلها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللَّه ... ليس عليك تبعة..." الحكمة 409 النهج... إننا نحتاج تربوياً إلى أن نربي أنفسنا وأولادنا على قدسية أداء الحقوق إلى أهلها وربط ذلك بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
* ما هي آثاره الاجتماعية (ارتباطه بالعدل الاجتماعي)؟
رد المظالم آثاره هامة على المستوى الاجتماعي لأنه يخدم بصورة واضحة قضية العدل الاجتماعي وسيادته في الجماعة، ويضع حداً للظلم والاستضعاف والفقر والتخلف، وفي الحديث: "لا عدل أفضل من ردّ المظالم" ويروى أن أمير المؤمنين عليه السلام مرّ بقذرٍ على مزبلة فقال: "هذا ما بخل به الباخلون"، وفي خبرٍ آخر أنه قال: "هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس" الحكمة 186 نهج البلاغة، وله عليه السلام موقف مشهور عندما وُلّي الخلافة وشاهد المظالم التي لحقت بالمسلمين ممن قبله وأراد ردّ الحقوق إليهم فقال عليه السلام: "واللَّه لو وجدته أي المال قد تُزوج به النساء، ومُلك به الإماء، وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" الخطبة 15 نهج البلاغة. هذا النموذج الأسوة لو جرى تعميمه بين المسلمين أفراداً وجماعات لتحوّلوا إلى مجتمع العدالة الذي تتطلع إليه كل البشرية، لأن المجتمع الذي يسوده العدل سيكون أيضاً متميزاً في جوانب أخرى أهمها: التقدم والنمو والغنى والتماسك الذي يعطي المجتمع قوة لا يجرؤ على مواجهتها أحد.
* ما هي الآثار الأخروية لرد المظالم على الفرد والمجتمع؟
بالنظر إلى الآخرة فإنّ ردّ المظالم في الحياة الدنيا سينعكس على مصير وحال الإنسان من خلال اليسر الذي عبّر عنه القرآن الكريم حيث يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ (الليل: 10 5). والإعطاء إنما هو للحقوق سواء كانت للخالق تعالى أو للمخلوقين، وهو التعبير الحقيقي عن الإيمان في قبال البخل والانخداع بمتاع الدنيا الذي هو في حقيقته تكذيب وكفر. وإذا كان الظلم ظلمك يوم القيامة، فإن العدل هو النور الذي يضيء للإنسان ويغمره في ذلك اليوم العصيب. وقد رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله: "أحبُّ أن أحشر يوم القيامة في النور؟ قال: لا تظلم أحداً تحشر يوم القيامة في النور".