تحقيق: لطيفة الحسينيّ
لطالما كانت قضيّة الموت منشأ خوفٍ للإنسان، لكنّ المؤمن يراها بعين أخرى؛ فهو بالنسبة إليه انتقالٌ إلى عالم آخر، يصفه القرآن الكريم أنّه دار الخلد ودار الحياة الحقيقيّة.
ولتلك الدار بطاقة عبور خاصّة تستدعي التجهّز والاستعداد قبل بلوغها، عبر العمل الصالح، لكن ثمّة مسألة مهمّة تخفى على كثيرين، وهي حقوق الناس عليهم، أو ما يُعرف بالمصطلح الشرعيّ بـ"ردّ المظالم".
فكيف نتعاطى بصفتنا مؤمنين مع هذه المسألة في حياتنا اليوميّة؟ وإلى أيّ حدّ يعيش المؤمن همّ إبراء ذمّته ممّا عليه من حقوق الناس، ماديّاً ومعنويّاً؟ وهل يمكن أن تكون أذيّة مؤمن ما حائلاً أمام دخول الجنّة؟
•ماذا يعني لك "ردّ المظالم"؟
حي يُسأل الناس، أو ربّما الفئات المتديّنة والمُلتزمة بالشريعة الإسلاميّة: ماذا تعرفون عن ردّ المظالم؟ لا يُبادر السواد الأعظم إلى الإجابة. المشهد يصبح كالآتي: ارتباكٌ، صمتٌ، واستفسار. زُمرةٌ قليلة تقودنا إلى المُراد.
"لا أعرف"، قال بعضهم. آخرون يسألون: "ماذا تعني؟"، وثمّة من يستعيد ذاكرةً لمرحوم قريب كان يتّبعها "سنّةً"، غير أنّ المُجيب لا يُدرك معناها. وثمّة من قال: "إنّها تعني تبرئة الذمّة الماليّة بعد الوفاة من قِبَل أهل الفقيد أو ورثته".
كلّ محاولة للتفكير بمعنى المصطلح كانت تعجز عن الوصول إلى المعنى، لكنّ الأهمّ هنا، أنّ هؤلاء وجدوا أنفسهم أمام مُفردة دينيّة تحمل صفات الواجبات والمخلّصات في آن، فانبروا للبحث عنها.
•كيف تبرئ ذمّتك؟
تكمن غاية سؤالنا السابق في أثره العمليّ: إبراء الذّمّة. وعند سؤال بعض الأشخاص: كيف تبرئ ذمّتك من حقوق الناس عليك؟ أغلبهم أجاب: "بطلب المسامحة"، وفصّل أحدهم: "المسامحة مفيدةٌ في حال كان حقٌّ للآخر علينا". لكن ثمّة من يحذر من طلب المسامحة بحجّة: "قد يصرّ الآخر على معرفة سبب طلبي المسامحة، فيغضب منّي حينها؛ لذلك، أترك الوقت يعالج ذلك". ويأتي تعليق فريد: "نادراً ما فكّرت في أثر ما أقوله تُجاه الآخرين، فأجد أنّ الوقت كفيل في حلّ ذلك، وستصفو النفوس وحدها فيما بعد"!
لكن بما أنّ الوقت أحد الشهود علينا يوم الحساب، فلن يكون لصالحنا، وهذا ما دفعنا للانتقال إلى سؤال آخر: "ماذا تنتظر من شخص كسر زجاج سيّارتك خطأً، أو آذاك بكلمة فظّة أو بتصرّف متسرّع؟".
تنوّعت الإجابات، فلم تكفِ المسامحة وحدها هنا، معظمهم توقّع أن يعوّض الطرف الثاني عن أيّ خسارة ماديّة يتسبّب بها؛ لكي تصفو النفوس وتتمّ المسامحة! أمّا الأذيّة المعنويّة، فقد تعدّدت الإجابات حولها؛ ثمّة من قال: "أنتظر منه أن يعتذر منّي أمام كلّ من أهانني أمامهم، لن يكفيني أن يعتذر منّي على انفراد". وأجابت إحدى السيّدات: "الأذى المعنويّ يصيبنا في الصميم، فابني مثلاً، تعرّض للتنمّر من رفاقه، وهو يخضع حتّى الآن للعلاج النفسيّ والدعم المعنويّ جرّاء ذلك، فكيف يمكن لرفاقه أن يصلحوا ما أفسدوه؟!". أجمل التعليقات كانت لمسنٍّ حكيم اقتبس نوراً من كلام الإمام الصادق عليه السلام: "من كسر مؤمناً، فعليه جبره"(1). يتابع: "هذا الحديث يجب أن يُكتب بالذهب؛ فهو يُحمّل المتغافل عن حقوق غيره المعنويّة مسؤوليّةً كبيرة، بأنّه مطالبٌ بالضمان المعنويّ، وهو أمر لا يمكن التساهل فيه".
•بعض المظالم أخلاقيّة
هل يمكن وجود مظالم أخلاقيّة؟ يجيب أحد المستصرحين أنّ بعض الأعمال غير الملزمة لصاحبها لكن تركها قد يؤثّر على الآخر سلباً، تبدو بالنسبة إليه مظالم أخلاقيّة، منها: "الامتناع عن نصرة المظلوم، أو الامتناع عن مساعدة الآخرين، عدم قبول اعتذار من لديه عذر، عدم العفو، عدم ستر عيوب الآخرين، أجدها كلّها مظالم حين الامتناع عن آدائها مع القدرة"، فيما يجيب أحدهم أننا نعيش ظروفاً معيشيّة صعبة، لكنه يجد: "الإلحاح في السؤال والطلب وكثرة الشكوى من الحال بدل التعفّف، هو مظلمة للنفس"، وتحتلّ مشاكل التقصير في التربيّة مكاناً في المظالم حيث يقول أحد الآباء: "إن التقصير في تربية الأبناء وعدم تعويدهم على الصلاة، وعدم تعويدهم الاستيقاظ فجراً للصلاة، وعدم ردعهم عن ارتكاب المعاصي من خلال التربيّة، هو انتقاصٌ لحقوقهم، وهو مظلمة تربويّة أخلاقيّة تُجاه الأبناء".
بعد عرض آراء الناس، من الضروريّ للغاية الوقوف عند موقف الدين من هذه المسألة.
•عقبةٌ في الآخرة
يذكر علماء الأخلاق أنّ على المرء في الآخرة اجتياز مجموعة من العقبات؛ ليتمكّن من المرور على الصراط، من هذه العقبات مظالم عباد الله، كما يذكر الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب قائلاً: "لا يجتاز هذه العقبة من كان في ذمّته حقٌّ لآخر، وإذا كان عليه حقٌّ طفيف ومرّ على الصراط، سيهتزّ تحت قدميه حتّى يسقط منه إلى النار. حينها تجذبه النار بشدّة، وتصيح غاضبة، ولا توجد قوّة يمكنها إخراجه إلا بعون الله وشفاعة خاصّة"(2).
•المظالم: مصيريّة
أمام هذا المشهد الأخرويّ المصيريّ، ينطلق فضيلة السيّد بلال وهبي من حتميّة: "لا يغفر الله حقوق الناس دون إيفائها"؛ للحديث عن الأهميّة الاجتماعيّة والدينيّة لردّ المظالم في الشريعة الإسلاميّة. يقول لـ"بقيّة الله": "إنّ أحد أهمّ الاستدلالات على فلسفة العدل والمعاد، وضرورة أن يكون ثمّة يوم يرجع فيه الناس إلى الحياة بعد يوم القيامة، هو عدم اختلاط الحقّ بالباطل، حيث نرى أنّ صاحب الحقّ غالباً ما يعيش مقهوراً، ولا ينال عدله، ويموت على هذه الحال. وعليه، إذا لم ينل المرء (قسطه) في الدنيا، فلا بدّ أن يكون ثمّة وقت يرجع الناس فيه إلى الحياة، فيقتصّ المظلومُ حقّه من الظالم".
بحسب السيّد وهبي، "فقد نهى الله تعالى عن ارتكاب الظلم وعدّه جريرةً من الكبائر، وأنّه يغفر للعباد جميع الذنوب يوم القيامة، إلّا حقوق الآخرين التي لم يؤدّوها".
•لا للاستخفاف
من وجهة نظر السيّد بلال وهبي، إنّ ظُلم الأهل والزوج والعائلة والأولاد وتسويق الفجور والخلاعة والمجون والأفكار الهدّامة، كلّها مظالم معنويّة تُحمل تبعاتُها إلى يوم القيامة.
ويُنبّه السيّد إلى خطورة هذا الأمر مع الاستخفاف بحقوق الآخرين؛ إذ يعمل بعضهم على تأدية كلّ ما عليهم من الواجبات العباديّة قبل الممات، من صلاة وصوم وخمس وزكاة، لكنهّم يستخفّون بتأدية حقوق الآخرين! وفي هذا السياق، يسترسل في الشرح: "في يوم القيامة، قد يكون مفتاح الجنّة أحياناً في يد شخص له حقّ علينا ولم نردّه إليه، فإن شاء أدخلنا الجنّة، وإن شاء منعنا. وحينها، يُقتصّ من حسناتنا. فلنتصوّر أنّ حقّه وحده يساوي كلّ حسناتنا! فدخول الجنّة في هذه الحالة متوقّف على كلمة أحد ظلمناه".
•أولى الأولويّات
إنّ أولى الأولويّات، وفق السيّد بلال وهبي، أن "يخلّص كلّ واحد منّا ذمّته من التبعات، أمّا انتهاج أسلوب التسويف بالأمور والمماطلة في إعادة الحقوق الماليّة والنفسيّة، فهو كارثة كبرى". ويرى سماحته أنّه "من الخطأ الفادح أن يتأخّر شخص في القيام بما هو واجب عليه، وقد يتوفّى قبل أن يتمكّن من القيام بذلك، والأسوأ من ذلك، أن يوصي أحدهم بالصلاة والصوم عنه بعد مماته، وهو لم يُبادر إلى تبرئة ذمّته من حقوق الناس عليه!
فالخطوة المطلوبة في هذا المجال، أن يبدأ كلّ منّا بتأدية ما عليه من حقوق تُجاه الآخرين في حياته، وقبل أن يعاجله الموت الذي قد يأتيه على غفلة؛ لأنّ من يعيش حياته دون عمل وجهد، ويكتب وصيّته دون أن يسعى إلى تنفيذ ما عليه من حقوق وواجبات، فتلك مصيبة أخرى"! ويشير إلى أنّ الكثير من الوصايا لم تنفّذ بعد ممات كاتبيها، وهذه مشكلةٌ كبيرة يجب الالتفات إليها.
•وزر المظالم النفسيّة
إنّ وزر المظالم النفسيّة يؤدّي أحياناً إلى الفساد في المجتمع، ويمتدّ أثره إلى يوم القيامة، هذا ما يجزم به محدّثنا، ويؤكّد أن الكلمة أو الموقف قد يشكّلان أحياناً مظلمةً هي أسوأ بكثير من أيّ مظالم أخرى، ويضرب سماحته هنا مثالاً: "تلك التي تحرف صديقةً عن الصراط المستقيم والدين، وتحثّها مثلاً على خلع الحجاب كبداية حتّى تخرج عن دينها تماماً؛ فهذا أشدّ ظلماً من أن تأخذ مبلغاً منها ولا تردّه! نحن أمام المشهد الآتي: الانتقال من الإيمان والطاعة، إلى الفسق والمعصية، والإنسان هنا بات مُرتكباً لذنوب تحمل آثاراً نفسيّة وأخرويّة. وقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام ضرورة إرجاع الفرد إلى الإيمان الذي كان عليه. وهذه مهمّة شاقّة بحدّ ذاتها. والتعويض يكون بعدم الترويج للباطل، بل للحقّ بالقدر نفسه، وربّما أكثر".
إذاً، المظالم عبء ثقيل، على الإنسان التخلّص من وزره يوم لا ينفع مال ولا بنون. فليبادر كلّ من في ذمّته حقّ لأحد، أن يعيده إليه حتّى لا يُفاجأ يوم الحساب بثقل وزره!
1. الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 45.
2. الشهيد دستغيب، المظالم، ص 70.