الشيخ أكرم بركات
نصَّت الروايات على أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد خصَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بمجموعة من الكتب ذكرنا منها ستة عناوين في كتابنا "حقيقة الجفر عند الشيعة" ومن هذه الكتب "كتاب الجامعة" الذي ورد ذكره في مصادر عديدة منها كتاب الكافي للشيخ الكليني قدس سره، وفي سند صحيح عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد اللَّه عليه السلام فقلت له: جعلت فداك إني أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد اللَّه عليه السلام ستراً بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه، ثم قال: يا أبا محمد، سل عمَّا بدا لك، قال: قلت: جعلتُ فداك، إن شيعتك يتحدثون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علَّم علياً عليه السلام باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمد، علَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام ألف باب يفتح من كل باب ألف باب، قال: قلت: هذا واللَّه العلم، قال: فنكث ساعة في الأرض ثم قال: إنه لعلم، وما هو بذاك، قال: ثم قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟ قال صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وإملائه، من فلق فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش(1).
ومن هذه الرواية إضافة إلى غيرها مما سنورده نستنتج هوية كتاب الجامعة وهي التالية:
1- مملي الجامعة : الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله.
2- كاتب الجامعة : الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
3- حجم الجامعة: سبعون ذراعاً بذراع الرسول الأكرم طولاً .
4- محتوى الجامعة: جميع الأحكام الشرعية في السنّة النبوية الشريفة، وهذا الأمر يحتاج إلى مزيد بيان.
* سرُّ التأكيد على الجامعة
إن كتاب الجامعة يرتبط بكمال التشريع الإسلامي والدين الإلهي، فالإسلام بلا شك ولا ريب هو دين كامل قد أخبر اللَّه تعالى عن كماله بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(2). لكن نتساءل بماذا أكمل الدين وتمت الشريعة؟ هل القرآن وحده هو الذي أكمل الدين؟ إن المطّلع على القرآن الكريم يعلم أنه تحدَّث عن عمومات في الشريعة وعن جملة من تفاصيلها، لكنه لم يذكر كثيراً من التفاصيل كعدد ركعات الصلوات وغير ذلك. إذن لا بد من عنصرٍ آخر غير القرآن لينضمّ إلى القرآن في عملية إكمال الدين، وهنا يأتي دور السنَّة النبوية الشريفة التي قامت بدور بيان تفاصيل الشريعة الإسلامية. إلاَّ أن إلقاء نظرة فاحصة على مرحلة تبليغ هذه السُنَّة الشريفة يوقفنا أمام أمر هام جداً، فمرحلة تبليغ السنّة النبوية دامت ثلاثاً وعشرين سنة قضى منها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ثلاث عشرة سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة المنورة. أما في السنوات المكية العشر فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله إلاَّ عدد قليل(3) أغلبهم من المستضعفين المضطهدين مما أدى إلى هجرة الكثير منهم إلى الحبشة مرتين.
وفي هذه السنوات المكّية كان المشركون يضيِّقون على النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين الباقين معه ضيقاً شديداً، ويمنعونه من تبليغ دعوته للآخرين حتى وصل الأمر بهم إلى محاصرته مع جملة من الهاشميين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات حيث كانت المجاعة الشديدة... إن الناظر في هذه المرحلة المكية يُدرك بوضوح أن الفرصة لم تسنح للنبي صلى الله عليه وآله إلاَّ بتبليغ أساسيات الاعتقادات والبعض القليل من جوانب الشريعة كما يُلاحظ القارئ للآيات القرآنية النازلة في مكة. ومما يؤكِّد هذا الواقع أن فريضة الصوم، وهي من أوائل فروع الدين، لم تنزل في مكة بل في المدينة. وانتهت هذه السنوات المكّية بهجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى يثرب ليقضي فيها عشر سنوات كانت مليئة بالحروب والغزوات، إضافة إلى الخلافات التي حصلت بين القبائل من داخل المجتمع الإسلامي الجديد، كلها شكَّلت معوِّقات أمام تبليغ تفاصيل الشريعة الإسلامية والسنَّة النبويَّة الشريفة. يقول الشهيد المطهّري: "وإذا أردنا أن نغضّ النظر عن الواقع الكائن في مكة والمدينة، ونفترض أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله سَلَك في هذه السنوات الثلاث والعشرين من البعثة نهج المعلِّم الذي لا شأن له إلاَّ الذهاب إلى الصف وتعليم الناس، فمع ذلك لم يكن هذا الوقت وافياً كي يُبيِّن النبي صلى الله عليه وآله للناس جميع ما ينطوي عليه الإسلام، فكيف إذا أضفنا لذلك التاريخ القائم (الذي امتصَّ جلَّ أوقات النبي صلى الله عليه وآله) خصوصاً بشأن دين كالإسلام يبسط حاكميته على جميع شؤون حياة البشر"(4).
* الحل: ولاية الحجج عليهم السلام
إذن لا بدَّ من حلٍّ يتسنَّى من خلاله للنبي صلى الله عليه وآله أن يبلِّغ ويحفظ سنَّته الشريفة التي تمثل مع القرآن الكريم توأم التشريع الكامل. فكان الحلّ الإلهي يتمثل بتربية إلهية لشخصٍ استثنائي يكون وعاءً لعلم النبي صلى الله عليه وآله ومستودعاً لسنَّته وحافظاً للدين الحنيف. وكان هذا الشخص هو علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان محلَّ الفيض الإلهي والتعليم النبوي. وهذا ما يعطينا التفسير الواضح لتلك الجلسات الطويلة بين محمد صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وتلك الملازمة الشديدة بينهما التي كان يعبِّر عنها أمير المؤمنين بقوله: "ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه"، وكان النبي صلى الله عليه وآله كما يخبر عنه علي عليه السلام: "إذا سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أجابني وإن فنيت مسائلي ابتدأني"(5). وأكَّدت الروايات أن هذا التعليم الخاص كان بأمر إلهي، فقد روى أبو نعيم الحافظ الشافعي ت430ه باسناده عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "يا علي، إن اللَّه عزَّ وجلَّ أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي وأنزلت هذه الآية وتعيها أذن واعية وأنت أذن واعية للعلم"(6). ولأجل هذا الدور الإلهي في إكمال تبليغ الشريعة الإلهية والسنَّة النبوية حدَّد النبي صلى الله عليه وآله أن للشريعة مدخلاً وأن لعلمه باباً من أراد أن يغترف لا بد أن يدخل منه فقال صلى الله عليه وآله: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"(7).
من هنا نعرف سرَّ كتاب الجامعة فهو الكتاب الذي حفظ السنّة النبوية وتفاصيل الشريعة الإسلامية والأحكام الشرعية مدوَّنة ومحروسة ومحفوظة عند حفظة الدين الإمام علي وأبنائه المعصومين عليهم السلام وكان أهل البيت عليهم السلام ينطلقون من محتوى الجامعة المحفوظ عندهم في حوارهم مع الآخرين، كحوار الإمام الصادق عليه السلام مع أبي حنيفة الذي لم يثبت عنده من السنّة النبوية حسب ما كان يقول أكثر من سبعة عشر حديثاً فلجأ إلى القياس والاستحسان، وقد عارض أئمة أهل البيت عليهم السلام أبا حنيفة وأمثاله، لأنهم يلجأون إلى الظنيِّات العقلية التي لا تغني من الحق شيئاً تاركين السُنَّة النبوية التي كان الأئمة المعصومون بابها المفتوح.
* كتاب علي عليه السلام والجامعة
ومن تلك الكتب التي ورد أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد خصَّها للإمام علي عليه السلام ما سُمِّي ب"كتاب علي" الذي نقل أحد المعاصرين أنه تكرَّر عنوانه في كتب الإمامية في ألف مورد أو أكثر(8). ويبدو من مراجعة النصوص الواردة في كلٍّ من كتاب علي عليه السلام والجامعة أن كونهما كتاباً واحداً غير بعيد، وهذا ما نلاحظه من خلال الشواهد التالية:
الشاهد الأول: وحدة الحجم، فكتاب الجامعة هو صحيفة طولها سبعون ذراعاً كما مر، وكتاب علي هو "صحيفة طولها سبعون ذراعاً" كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام(9). الشاهد الثاني: وحدة المحتوى، وهذا ما يظهر من خلال أمرين: الأمر الأول: أن كتاب الجامعة يحتوي كما تقدّم على "كل شيء يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش" وكذلك فإنّ كتاب عليّ "ما على الأرض شيء يحتاجون إليه إلاّ وهو فيه حتى أرش الخدش" كما ورد في الروايات(10). الأمر الثاني: ورد أنّ كتاب الجامعة يحتوي على الفرائض أي أحكام الإرث وذلك في رواية أبي بصير الذي قال: "أخرج لي أبو جعفر صحيفة فيها الحلال والحرام والفرائض قلت: ما هذه؟ قال عليه السلام: هذه إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخطّه عليّ بيده". قال (أبو بصير): قلت: فما تبلى؟ قال عليه السلام: فما يبليها؟! قلت: وما تدرس؟ قال عليه السلام: وما يدرسها؟! قال عليه السلام: هي كتاب الجامعة أو من الجامعة(11). وهذه الفرائض التي تحتويها الجامعة تنصّ الروايات على أنّ "كتاب عليّ" يحتويها ففي رواية أخرى عن أبي بصير قال: "سألت أبا عبد اللَّه عن شيء عن الفرائض، فقال لي: ألا أخرج لك كتاب عليّ عليه السلام؟ فقلت: كتاب عليّ لم يدرس. فقال: يا أبا محمّد، إنّ كتاب عليّ لم يدرس، فأخرجه فإذا كتاب جليل، وإذا فيه رجل مات وترك عمّه وخاله قال: للعمّ الثلثان وللخال الثلث"(12). إذن الفرائض موجودة في كلٍّ من الجامعة وكتاب عليّ عليه السلام وهذا مع ما سبق عليه يشهد أنّهما كتاب واحد.
صحيفة الفرائض جزء من كتاب عليّ عليه السلام:
والروايتان الأخيرتان يستنتج منهما أنّ ما عُبِّر عنه في الروايات ب"صحيفة الفرائض"(13) هو جزء من كتاب عليّ عليه السلام وقد احتمل العلاّمة الأحمدي في كتابه مكاتيب الرسول(14) أن تكون تلك الصحيفة نفس كتاب علي عليه السلام.
* محتوى آخر لكتاب الجامعة
مع وضوح كون كتاب الجامعة هو كتاب فقهي بحسب التعبير إلا أن هناك نصَّاً يفيد أن هذا الكتاب يحتوي على علمٍ في أمور الغيب وهذا ما ورد في وثيقة العهد الرسمية بين المأمون والإمام الرضا عليه السلام الذي كتب على تلك الوثيقة: "... وقد جعلت للَّه على نفسي إن استدعاني أمر المسلمين وقلَّدني خلافته العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وطاعة رسوله... إلى أن كتب والجامعة والجفر يدلاَّن على ضد ذلك"(15). هذا جمال الكلام عن كتاب الجامعة الذي هو بحق أحد مآثر أهل بيت النبوة، وشاهد صدق على إمامتهم.
(1) الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، تحقيق الغفاري، بيروت، دار الأضواء، ج1، ص239.
(2) سورة المائدة، الآية: 3.
(3) انظر: المطهري، الإمامة، ترجمة كسَّار، منشورات مؤسسة أم القرى، قم، ص1، ص77.
(4) الإمامة، ترجمة كسَّار، منشورات مؤسسة أم القرى، قم، ط1، ص77.
(5) الصفار، بصائر الدرجات، منشورات بصيرتي، قم، ص198.
انظر كتابنا "حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة" منشورات دار الصفوة، بيروت، ط1.
(6) حلية الأولياء، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، ط1409 ،1هـ، ج1، ص67.
الجويني ت730ه، فوائد السمطين، تحقيق المحمودي، منشورات مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409ه، ج13، ص136.
العلامة الحلي ت 726ه كشف اليقين، تحقيق علي آل كوثر، منشورات مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم، ط1، ص52.
انظر كتابنا "حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة" ص146.
(7) الترمذي ت 297ه، الجامع الصحيح، منشورات دار احياء التراث، بيروت، ج5، ص637.
(8) انظر: الأحمدي، علي، مكاتيب الرسول، ج1، ص89 - 71.
(9) الصفار، حسن، بصائر الدرجات، ص147، حديث 1.
(10) بصائر الدرجات: ص147، حديث 1.
(11) المصدر السابق، ص144، حديث 9.
(12) الكليني، فروع الكافي: ج7، ص119، حديث 1. الطوسي، التهذيب: ج9، ص324، حديث 1، (وفيه لا يندرس بدل لم يدرس)، الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج17، ص504، حديث 32771.
(13) الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج17، ص485، حديث 32698.
(14) ص71.
(15) الأربلي، علي بن عيسى، كشف الغمة، ج3، ص127، المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج49، ص153، (انظر بقية المراجع في كتابنا حقيقة الجفر عند الشيعة، ص63).