الشيخ سمير رحال
تحدّت الرسالات السماوية المنكرين بمعاجز تفوق قدراتهم ، ليستيقنوا أنها من عند اللّه وأن حاملها هو رسول اللّه. فلما بعث اللّه النبي الخاتم ا بالإسلام كانت معجزته الكبرى هي القرآن الذي تحداهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وما يميز معجزة النبي ا أنها باقية على مدار الزمن، لا تذهب بذهاب من عاصرها بل هي أبداً حيّة. هذا وأن القرآن الكريم لم يكن معجزاً فقط في جانبه اللَّفظي والبلاغي والذي أعجز فصحاء العرب أن يأتوا بمثله، بل هو معجز في جميع مجالاته. ولئن أفاد القرآن الكريم من أساليبه البيانية في إثبات حقّانيته وانتسابه إلى اللّه تعالى ، إلا أن هناك إعجازاً آخر في بيان حقائق علمية لم يعرف أسرارها أولئك المخاطبون الأوائل، ولكنها غدت الآن أكثر وضوحاً على ضوء على ما تم اكتشافه، وكأن هذه الآيات التي رصد فيها القرآن الكريم الكثير من الظواهر والإشارات العلمية أدَّخرها تعالى ليكون لها حقها المعجز في زمن ابتعد الناطقون باللغة العربية عن إدراك اللَّطائف والتعابير القرآنية البيانية. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت/53).
* أهداف الآيات القرآنية ذات الإشارات العلمية:
يمكن الحديث بداية عن هدف عام تشترك فيه مجمل الآيات القرآنية بمختلف مضامينها وهو الإيمان بأن للكون إلهاً واحداً خالقاً مدبراً حكيماً، وأيضاً يمكن القول أن الهدف هو أن يكون للقران الكريم وجوده المعجز في عصر العلم والتكنولوجيا فيستفيد العلماء من بياناته العلمية كما استفاد السابقون من أساليبه البيانية، وأدركوا بعض حقائقه العلمية وإن بشكل سطحي. يضاف إلى ذلك ما عليه دأب القرآن من الدعوة إلى تحفيز الفكر وإجالة البصر الدقيق والتأمل لاكتشاف أسرار الخلق والكون.
* خصائص الآيات الكونية:
بخلاف الآيات الأخرى التي تظهر دلالتها بوضوح، فإن الآيات الكونية صيغت صياغة مجملة يفهم منها أهل كل عصر معنى يتناسب مع ما عندهم من إحاطة بالكون وعلومه، بما لا يشكل تنافياً في المفهوم منها بل يشكل اختلافاً في مدى عمق الفهم، ومثال على ذلك قوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات/49) فقد كان معروفاً لدى الناس وقت نزول القرآن أن في النبات والحيوان والإنسان زوجين ذكراً وأنثى، فذلك مبلغ علمهم ولكن الآيتين تشيران إلى زوجين في كل شيء، ومما لا يعلمون فتمضي القرون ويأتي عصر الذرة ليكتشف العلماء أن في داخلها زوجين من الطاقة سالبة وموجبة. فهذه الآيات ومثلها لا يمكن فهمها فهماً عميقاً في إطارها اللغوي فقط بل لا بد من توظيف المعارف العلمية.
* عيّنة من الإعجاز العلمي:
قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (النبأ/6، 7) هذه الحقيقة التي بينها القرآن لم تعرف إلا منذ أمد قصير عندما تم تصوير باطن الأرض ليروا أن الجبل ليس هو الجزء الظاهر منه فقط فوق سطح الأرض بل إنه مغروس كالوتد في باطن الأرض وأن الجزء المغروس منه مدبب كالوتد ليثبت الجبل مكانه. كما أن دلالة القرآن على كروية الأرض ودورانها واضحة في أكثر من آية.
* مخاطر تفسير القرآن بالمكتشفات العلمية:
نعم هناك جدل دائر عند المفسرين حول إمكانية تفسير الآيات الكونية بالاكتشافات العلمية ومدى صحة ذلك، ولئن أفرط البعض في ذلك فحّملوا الآيات ما لا تحتمل أو نظريات لم تصل إلى حقائق، مما يستوجب وهناً وتشكيكاً في القرآن الكريم كما في تفسير البعض لقوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (الدخان/10) بما ظهر في هذا العصر من الغازات السامة الناتجة من وسائل التخريب والتدمير. ومثلاً يقول تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ...﴾ (الحجر/19) ومعنى مددناها أنك أينما ذهبت فوق سطح الأرض تراها ممدودة أمامك أي منبسطة، وأي مكان نذهب إليه نرى الأرض منبسطة وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية. فإذاً قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ دليل على كروية الأرض، ولكننا نرى البعض في السابق فسّر الآية على أن الأرض مبسوطة وهذا ما كان يعتقده العلماء في السابق، فإذا ثبت أن الأرض كروية بدا تعارض وهمي بين حقيقة كونية وحقيقة قرآنية، وهذا ما يفسح مجالاً للطعن في كتاب اللّه والنيل منه. هذا وما ذُكر لا ينفي ضرورة الإفادة من المعارف العلمية الحديثة والتي أضحت معارف علمية تقنية، وتوظيف معطياته لحسن فهم دلالة تلك الآيات القرآنية الكونية التي يزيد عددها على الألف، وليثبت لكل ذي لبّ أن خالق هذا الكون بأسراره هو نفسه من أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وآله.
* دقة التعبير القرآني في بيان الحقائق الكونية:
يختار القرآن الكريم اللَّفظ المناسب للعصر الذي نزل فيه والعصور التي تلي نزوله، فلو تأملنا قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ (الأمر/5) لماذا استخدم تعالى لفظ يكّور لا لفظاً آخر؟ فلو جئت بشيء ولففته حول كرة تقول إنك كورت هذا القماش أي جعلته يأخذ شكل الكرة، على هذا فمعنى قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ أي يجعلهما يحيطان بالأرض ومعناه أنهما موجودان في نفس الوقت حول الأرض لذا يقول تعالى ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أي لا يسبق أحدهما الآخر، وحين خلق اللّه الشمس والأرض وُجد الليل والنهار معاً فنصف الأرض المواجه للشمس صار نهاراً والنصف الآخر صار ليلاً ثم دارت الأرض فأصبح الليل نهاراً والنهار ليلاً فالآية ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار﴾ (يس/40) تفيد أن الأرض مخلوقة على هذه الصورة الكروية. وهكذا في القرآن الكريم ألفاظ تؤدي معانيها بدقة، وربما يعين المستقبل في استكناه أسرارها ودقائقها.
* أسلوب عرض الحقائق الكونية:
عندما يعرض القرآن لقضايا الكون العلمية لا يعرضها بأساليب البشر المعتمدة كاستعمال المقدمات والمعادلات واستنباط النتائج وإنما يقدمها بالإشارة أو الرمز أو المجاز أو الاستعارة أو بالعبارات التي تثير العقل، لأنه تعالى ينزل آيات قد لا يدرك معناها أو يفهم حقائقها في وقتها كل المعاصرين لنزولها لأن العلم بقوانين الكون كان محدود الأفق وقتئذ فعرضها بهذه الطرق المذكورة لعلمه أنه في المستقبل سيكون لهذه الحقائق المشار إليها في القرآن الكريم سهم وافر من البحث، وأن المستقبل سوف يأتي بشرحٍ وافٍ لهذه الرايات في ضوء علوم عصورها. لذلك فإن هذه الآيات لم تفسّر تفسيراً كاملاً في عهد النبي ا وعصر النزول لأن لها عطاءً سيتجدد في كل الأجيال.