الشيخ عباس رشيد
في الأرض أشخاص ينيرون مسالكها ودروبها، وبدونهم تكون مظلمة حالكة لا تطاق، الأنبياء عليهم السلام أول الحلقة، وثانيها خلفاؤهم، ومنهم أئمة أهل البيت عليهم السلام، وثالثها العلماء الذين كانت على عاتقهم مسؤولية كبيرة ولا زالت، مسؤولية التبليغ والتنوير، وبذلك كانوا خلفاء الرسل وأمناءهم ووارثيهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ملهم العلماء ورائدهم. وقصص العلماء ليست كقصة أيِّ إنسان آخر، فيها الكثير من العبر والدروس، في شتّى مناحي الحياة؛ فمع بعض قصصهم التي تحي القلب الميت، وتنعش النفس الخاملة بحبِّ الدُّنيا...
* مفيد في الصغر
درس الشيخ المفيد في مطلع شبابه عند أبي ياسر الذي عجز عن البحث معه، فأشار إليه بالمضي إلى علي بن عيسى الرمَّاني أعظم علماء الكلام، فذهب إلى مجلسه فاتفق أن رجلاً من أهل البصرة دخل وسأل الرماني: ما تقول في حديث الغدير وقصة الغار؟ فقال الرماني: خبر الغار دراية وخبر الغدير رواية، والرواية لا تعارض الدراية، فإذا بالشيخ المفيد ينتفض قائلاً للرماني: ما تقول فيمن خرج على الإمام العادل فحاربه؟ فقال كافر ثم استدرك فقال: فاسق، فسأله الشيخ مرة أخرى: ما تقول في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال الرماني: إمام، فسأله المفيد: ما تقول في حرب طلحة والزبير في حرب الجمل؟ فقال: إنهما تابا، فقال له المفيد: خبر الحرب دراية والتوبة رواية، فتعجب الرماني من ذكائه ولقبه "بالمفيد". أثنى عليه علماء الشيعة والسنة فقال عنه العلامة الحلي"قدس سره": "من أجلّ مشايخ الشيعة، ورئيسهم وأستاذهم، وكل من تأخر عنه استفاد منه، أوثق أهل زمانه وأعلمهم". وقال عنه علماء العامة: "هو شيخ مشايخ الإمامية، رئيس الكلام والفقه والجدل، وكان يناظر أهل كل عقيدة".
* حجة على كل طالب
هاجر المولى محمد صالح المازندراني إلى أصبهان، ودخل مدرسة تعطي لطلابها رواتب حسب درجاتهم ومراتبهم في العلم والتحصيل، وكان راتبه أدنى الرواتب كلّها لا يكاد يفي بالضرورة لمأكله، لأنه كان لا يزال مبتدئاً، وكان لا بد له كغيره من الطلاب أن يراجع دروسه في الليل، كي يتهيّأ لتفهمها من الأستاذ في اليوم التالي، ولكن أنّى له بالمصباح وثمن الزيت.. وأخيراً وجد الحل، فقد كان للمدرسة بيوت خلاء تضاء في الليل، فكان يذهب إليها، ويقرأ في الكتاب على ضوئها، وهو واقف على قدميه الساعات الطوال، وبقي على ذلك أمداً طويلاً، حتى تقدّم في العلم، وزاد راتبه بحيث استطاع أن يقتطع منه ثمن الضياء. وكان يقول: أنا حجّة الله على كل طالب.. فإن احتجّ الطالب لكسله وعدم نجاحه بالفقر فلا أحد أفقر مني، وقد مضى عليّ أمد غير قصير، وأنا لا أقدر على ضوء غير ضوء الخلاء، وإن تذرّع بوقوف الذهن، فلا أحد أسوأ مني ذهناً، أما كبر السن فقد ابتدأت بتعلّم حروف الهجاء بعد الثلاثين من عمري، وقد بذلت كل مجهود، حتى منَّ الله عليّ بما قسمه لي من المعرفة.
* يحمل السلَّة من بلد إلى بلد
الشهيد الثاني هو من العلماء المعروفين بعطاءاتهم، وتأثيرهم في الساحة العلمية، كان مثالاً للزهد والإعراض عن الدنيا الفانية، فلا يشبه زهده شيئاً إلا زهد الأنبياء والأوصياء، فقد أعرض عن كلِّ شيء، حتى عن الجاه والمال، ولكن الذي لم يُعرض عنه هو العلم والكمال. كان فقيراً يعمل ويأكل من عرق جبينه، كأي عامل وفلاح من سائر الناس، هذا، وهو علم من أعلام الدنيا، لو شاء لملك منها ما عزَّ وغلا. يقول السيد محسن الأمين في الأعيان عن هذا العظيم، "ما ظنك برجل يؤلِّف مؤلفاته الجليلة الخالدة على مرور الدهر في حالة الخوف على دمه.. يؤلفها بين جدران البيوت المتواضعة، وحيطان الكروم، لا في قصور شامخة، ورياض نضرة، ولا مساعد له، ولا معين، حتى على تدبير معاشه. ما ظنك برجل من أعظم العلماء، وأكابر الفقهاء يحرس الكرم ليلاً، ويهيء الدروس، ويلقيها في الصباح على الطلبة، ويحتطب بنفسه لعياله، ويشتغل بالتجارة أحياناً يحمل السلّة من بلد إلى بلد، ويباشر أمور بيته ومعاشه".
* معترف بالخطأ
كان الشيخ يوسف صاحب الحدائق في بدء أمره على طريقة الإخباريين في استنباط الأحكام الشرعية، وحين تقدَّم في مداركه وعلومه عدل إلى طريقة الأصوليين، وأعلن خطأه على الملأ وقام يدعو إلى الحق، ويشهد بالقسط، ويرد على الإخباريين بمنطق العقل والدين. هذا في الاعتراف بالخطأ، أما في إنكار الذات، فيروي الشيخ عبد الله المامقاني في كتاب تنقيح المقال، عن أبيه أن أحد العلماء سُئل عن الصلاة خلف الشيخ يوسف صاحب الحدائق وكانا متعاصرين فقال لا تصح وسئل الشيخ يوسف عن الصلاة خلف ذلك العالِم نفسه فقال: تصح. فقيل له: كيف تصححها خلف من لا يصحح الصلاة بصلاتك؟ فقال: وأية غرابة في ذلك؟ إن واجبي الشرعي يحتم عليّ أن أقول ما أعتقد، وواجبه الشرعي يحتم عليه ذلك، وقد فعل كلُّ منّا بتكليفه وواجبه، وهل يسقط عن العدالة لمجرد أنه لا يصحح الصلاة خلفي؟!
* يعيش يوماً بيوم
يقول أحد العلماء المقرّبين من العلامة صاحب الجواهر: ذات يوم أردت أن أوزع على الطلاب مبلغاً من المال، ولدى الحساب رأيت أن بإمكاني أن أعطي لكل طالب توماناً. وكان انذاك مبلغاً معتدّاً به، بدأت بالتوزيع حتى وصلت إلى الشيخ صاحب الجواهر، قلت: هذا سهمك تفضّل، قال: لا آخذه، فقلت: لماذا؟ قال: أنا لا أحتاج اليوم أكثر من ريالين التومان عشر ريالات ولا اخذ شيئاً من الحقوق الشرعية لمصروف الأيام القادمة، ومن قال إني سأبقى حيّاً. قلت: إذن خذ ريالين وأعطني الباقي. قال: ليس عندي ثمانية ريالات. ثم ذهبنا إلى من صرف التومان فأعطيته الريالين، مصرف يومه ذاك.
* زاهد في المرجعية
أمر المرحوم صاحب الجواهر في أيامه الأخيرة بعقد اجتماع يضم جميع علماء النجف الأشرف من الطراز الأول، وعقد المجلس المذكور بحضور صاحب الجواهر إلا أن الشيخ الأنصاري لم يكن موجوداً. قال صاحب الجواهر: أحضروا الشيخ الأنصاري وبعد البحث عنه وجدوه في زاوية من حرم أمير المؤمنين متوجهاً نحو القبلة يدعو لصاحب الجواهر بالشفاء، وبعد دعائه أخبروه بالأمر فمضى للاشتراك في ذلك المجلس. أجلس صاحب الجواهر الشيخ بجوار فراشه وأخذ يده ووضعها على قلبه وقال: الآن طاب لي الموت، ثم قال للحاضرين: هذا مرجعكم من بعدي.. ثم تفرّق المجلس، ولم يلبث صاحب الجواهر أن التحق بالرفيق الأعلى، وجاء دور الشيخ الأنصاري في تولي قيادة الأمة ولكنه بالرغم من وجود أربعمائة مجتهد مسلّم باجتهادهم اعترفوا بأعلميته امتنع عن الإفتاء وقبول المرجعية، وكتب رسالة إلى سعيد العلماء الذي كان آنذاك في إيران وكان الشيخ زميله في الدراسة في كربلاء وكان يرى أنه أعلم منه كتب إليه رسالة بهذا المضمون: عندما كنت في كربلاء، وكنا ندرس معاً على "شريف العلماء" كنت أكثر مني فهماً واستيعاباً والآن ينبغي أن تأتي إلى النجف وتقوم بأعباء هذا الأمر، فكتب إليه "سعيد العلماء" ما حاصله: لقد بقيت أنت خلال المدة الماضية في الحوزة منشغلاً بالتدريس والمباحثة، وبينما انشغلت أنا بأمور الناس، ولذا فأنت أحق مني بهذا الأمر. وبعد وصول الجواب تشرف الأنصاري بزيارة حرم أمير المؤمنين عليه السلام وطلب من ذلك الإمام العظيم أن يعينه بإذن الله تعالى في هذا الأمر الخطير ويسدِّده. وقد كان الشيخ الأنصاري عالي الهمّة جميل الأخلاق، وكان يتابع أمور الطلاب شخصياً، ويشرف على تربيتهم كالأب العطوف، لاحظ طلابه أنه منذ أيام لا يحضر إلى الدرس في الموعد المحدد، فسألوه عن السبب، قال: أحد السادة يحب دراسة العلوم الدينية وفاتح بذلك عدّة أشخاص ليدرسوه المقدمات إلا أن أحداً منهم لم يوافق، واعتبروا أن شأنهم أجلّ من أن يتصدوا لهذا الدرس وقد توليت تدريسه.
* تجري دموعه عند قبوله المسؤولية
جاء عن الميرزا الشيرازي أن طلاب الشيخ الأنصاري بعد وفاة الشيخ اختاروه للمرجعية وأصروا عليه إصراراً كبيراً حتى أقنعوه بقبول هذه المسؤولية، فجرت دموعه على خدّيه ولحيته المباركة ثم أقسم أنه "لم يخطر في ذهني أبداً أني أحمل عبء هذه المسؤولية العظيمة"
هذه بعض قبسات من نور بعض علمائنا الأبرار، الذين أماتوا أنفسهم وأحيوا عقولهم.