ماجدة الحاج
موضوع تأخر سن الزواج من المواضيع التي أثارت جدلاً، وأصبحت الشغل الشاغل للباحثين الاجتماعيين لمعرفة الأسباب والآثار، حتى وصل عدد الدراسات في مصر وحدها تحديداً 645 بحثاً ميدانياً ودراسة، منذ مطلع التسعينات وحتى وقتنا الحالي. ولن نتناول الموضوع كأزمة اجتماعية بل سنتناول نفس النظرة الاجتماعية، محاولين تحليل أسباب هذه النظرة ، وانعكاساتها على المرأة.
* لماذا نسميها "عانس"؟
العنوسة في اللغة تعني الجارية التي طال مكثها في بيت أهلها بعد إدراكها ولم تتزوج، ورجل أسن ولم يتزوج فهو عانس. وجاء في لسان العرب: العانس من الرجال والنساء الذي يبقى زماناً بعدان يدرك لا يتزوج. بالأصل التسمية تعني الرجل والمرأة إلا أنه في مجتمعنا العربي أصبحت "لفظة العنوسة" توجه للمرأة دون الرجل، وهذه الكلمة تخص المجتمع الشرقي إذ لا تجدها في المجتمعات الأخرى، والمشكلة أن "العنوسة" باتت تحمل في طياتها إرثاً ومخزوناً اجتماعياً من النظرة إلى المرأة، ومعانٍ كثيرة تشير إلى الشفقة وقلَّة الحظ، وكأنها تتهم المرأة بأنها لو كانت جيدة لاختارها أحد الرجال زوجة له. فمن المفيد أولاً أن تستعمل تعبيراً آخر لائقاً وهو كلمة "عازبة" كما يقال للرجل "عازب" أو "تأخر سن الزواج".
* أسباب هذه النظرة:
1- اجتماعية: نلاحظ أن هناك نظرة لا تفهم المرأة خارج دائرة الرجل، فهو المركز والمحور الذي يجب أن تدور حوله المرأة لأنه هو المعيل والحامي، والمرأة هي الضعيفة التابعة.
2- المرأة ونظرتها إلى دورها: تنعكس رؤية المجتمع على المرأة ذاتها فهي تعيش هذه الأفكار وتلقائياً، فعندما تربي أولادها تزرع فيهم هذه الرؤية. فهي مسؤولة بالدرجة الأولى عن تكريس هذه النظرة لدى الأجيال.
3- الأهل والتربية: تُعد الفتاة منذ الصغر للدور المقدس، للزواج، وتبدأ الأحلام حتى يسمى العريس "فارس الأحلام" الذي سيأتي بالسعادة والقيمة والمكانة، فتصب الفتاة كل اهتماماتها بهذا الجانب، وحتى إذا أرادت فيما بعد أن تكمل دراستها أُعتبر ذلك من الكماليات والترف الفكري لأن مصيرها المطبخ والبيت.
* آثار نفسية واجتماعية:
كل ما ذكرنا، وكل هذه النظرة التي تملؤها الشفقة وقلة الحظ والنصيب، تُلقي بثقلها على الفتاة التي تتأخر بالزواج فتسترجع كل التعابير، وتسمع في عيون النساء الأقاويل، وترى نظرات الشفقة، فتعيش الشقاء والتعاسة، وقد يصل بها المطاف إلى الشك بقدراتها الأنثوية الجمالية والحياتية، أو الشك بعدل اللَّه سبحانه وتعالى وقضائه وقدره، والبعض منهن قد يصلن إلى الانتحار كما فعلت تلك الهنديات حيث نقلت وكالة الأنباء الفرنسية سنة 1996 عن إقدام ثلاث أخوات هنديات على الانتحار بتناول مبيد للحشرات لعدم قدرتهن على احتمال فكرة البقاء دون زواج، وقال ناطق شرطة بومباي أن الأخوات إعتبرن أنهن لا يملكن خياراً آخر سوى الانتحار، وسبب الانتحار أن الوالد لم يتمكن من العثور على زوج لابنته الكبرى 30 عاماً فرفض السماح لابنتيه الأخريين بالزواج إذا لم تتزوج الأولى. وأحياناً تُدفع المرأة إلى قبول زواج غير متكافئ فقط حتى لا يقال بأنها "عانس"، وقد يوصلها ذلك إلى الحد من قدراتها لأن بعض الرجال لا يقبلون بامرأة متعلمة أكثر أو متعقلة أكثر أو لها وظيفة أهم، فهو يريدها أقل منه حتى يتعايشا وليكون هو المسؤول عن البيت، وعدم التكافؤ يُتعس المرأة ويحد من طموحاتها وطاقاتها وقد يؤدي ذلك إلى الطلاق، فتظن المرأة أن بقاءها دون زواج أفضل من أن ترتبط بإنسان تعيش معه تعاسة تخسر بها أيام حياتها وطاقاتها وعلاقاتها ودورها الاجتماعي.
* ضرورة المعالجة والتغيير
في هذا الموضوع علينا أولاً بأن نفكر بدقة من ألف الموضوع إلى يائه، وبداية اللَّه سبحانه كرَّم الإنسان رجلاً وامرأة، والإنسانية أعظم هبة، وهي طريق العبودية والتوحيد، والخلافة الإلهية في الأرض، فالإنسانية قيمة مشتركة لدى الرجل والمرأة وهي الأساس في حياتهما الدنيوية، نعم هناك أدوار جزئية خاصة بكل منهما، فالذكورة والأبوة جزء من دور الرجل ومن كيانه وشخصيته، والأنوثة والأمومة جزء من دور المرأة ومن كيانها وشخصيتها، وإذا لم يكتمل هذا الدور فلا يعني ذلك إلغاء شخصية الإنسان، فالجزء لا يلغي الكل. نعم يعيش الإنسان حينها نقصاً معيناً، وعدم إشباع لرغبة ملحة، ولكن من قال أن الدنيا جعلت لنعيش فيها كل النعم، من قال بأنه لا توجد نقائص ولا توجد ابتلاءات أو امتحانات: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة/155).
إذن هناك بلاء ويجب على الإنسان الصبر، والامتحان لا يعني قلة القيمة أو الشأن فالنظرة الإلهية نظرة تكاملية للإنسان، ليس فيها أي انتقاص لا للمرأة ولا للرجل، فعلى المجتمع أن ينظر إلى المرأة كإنسانة تستطيع أن تعيش إنسانيتها حتى ولو لم تكن زوجة. وعلى المرأة أن تعلم أن مكانتها في المجتمع ليست مرتبطة باسم الرجل، بقدر ما هي مرتبطة بشخصيتها والدور الذي تؤديه في المجتمع، وهذا يتوقف على مقدار ما تبذله الواحدة من جهد في تنمية شخصيتها وتطويرها بالعلم والثقافة والعمل وأن تعطي من وقتها للأعمال التطوعية والاجتماعية التي تبدع المرأة في أدائها، فالمرأة ليست قابعة بين جدران بيتها تنتظر الرجل الذي سيأتيها لينقلها من حال إلى حال، والذي سيكون بيده مفتاح سعادتها وأساس تقبل المجتمع وتقديره لها.
وأخيراً يجب علينا، وعلى المرأة بالذات، أن لا تنسى أن سعادة المرأة كإنسان، تماماً كالرجل مرتبطة أولاً وقبل كل شيء باللَّه سبحانه وتعالى ومدى قربها منه، والمرأة عندها الكثير من المقومات الروحية ما يجعلها ترتقي في خط السير والسلوك إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وأن لا تنسى أن الدنيا دار ممر والسعادة الحقيقية في الآخرة، وأي نقص نعيشه في دنيانا سوف يعوضه اللَّه علينا أضعافاً مضاعفة في الآخرة. والتغيير إن كان مأمولاً فيجب أن يبدأ من المرأة نفسها، لأنها هي التي تربي وتُخرِّج الأجيال، ومن العدل أن نقول أن التغيير بدأت ملامحه، ولكنه بحاجة إلى مزيد من الجهود، جهود الجميع في مجتمعنا.