* عاقبة النبوة (1)
إن الطريق الذي يدعو الأنبياءُ الناسَ إليه، هو طريق طبيعي ومنسجم مع فطرة الإنسان. وحركة الناس في ذلك الطريق حركة طبيعية، ولهذا فإنها تتم بسرعة وسهولة كبيرة. أما الأنظمة الجائرة والجاهلية التي تبعد الناس عن هذا الطريق فهي مخالفة لطبيعة الإنسان وفطرته. ولهذا فهي غير مستقرة ومحكومة بالزوال.
ومن هنا يمكن معرفة عاقبة حركة الأنبياء والنبوات...
فخلافاً للنظريات السطحية والساذجة، لم تكن حركة الأنبياء حركة فاشلة. وبالتالي لم يعترها الباطل. وكان الأنبياء الإلهيون عبر التاريخ يحققون النجاح والانتصارات ويهدون الشعوب في مسيرتهم. وسوف يبقى هذا حتى نهاية العالم.
وكل واحد من حاملي رسالة الحق قد تقدم بالبشرية عبر الشريط الممتد للتاريخ. وقد يسّروا سير الإنسانية نحو الهدف الأساس للخلقة وهو الوصول إلى السمو والتكامل وسرّعوا من حركتها. وبعد سنوات السعي والجهاد المرير رحلوا عن هذا العالم -لأسباب عديدة - وكانت المهمة الأخيرة لهم إيداع هذه الأمانة الإلهية - أمانة هداية البشرية- عند رسول أو مأمور من بعدهم ليطووا صفحة الحياة في هذا العالم بالفوز والفلاح... ونتيجة ذلك، صارت البشرية في هذه المرحلة التاريخية أقرب إلى أهداف الأنبياء على أثر الوعي ـ الذي هو من ثمار دعوة الأنبياء أيضاً ـ وبعد العمر المديد الذي عاشته.
وسوف تستمر هذه المسيرة الطبيعية إلى ذلك اليوم الذي تتقدم فيه بآخر خطوة على يد آخر الحجج الإلهيين نحو التربية والرشد وتطوي طريق التكامل والعلو الذي لا انتهاء له بسرعة أكبر من كل الأوقات والأزمنة..
وهذه هي الخاتمة الحقيقية للنبوة وطريقها...
النقطة المهمة جداً هنا هي إن الانتصارات والتوفيقات المرحلية كانت وليدة عاملين مصيريين: الإيمان والصبر.
وكل الهزائم التي حصلت أثناء المسير كانت نتيجة افتقاد هذين العاملين.. وفي الآيات التالية بشائر للمؤمنين وسنن للعاقلين:
﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ * لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ (الرعد: 16 ـ 18).
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ (الصافات: 171 ـ 180).
* خاتمة النبوة (2)
مختصر الكلام هنا حول خاتمة النبوات، هو أن دعوة الأنبياء، عبر مراحل التاريخ وفصوله، كلما كانت مصاحبة بالإيمان والصبر الكاملين منهم ومن أتباعهم، كان نصيبها النصر والفلاح، والتوفيق في إيجاد المجتمع الصالح والنظام المطلوب وتحطيم الأنظمة الجاهلية.
ولقد استطاع جميع الأنبياء ـ حتى أولئك الذين واجهوا هزيمة ظاهرية مرحلية ـ الوصول إلى أهدافهم ومقاصدهم في الخط العام لمسيرة النبوة وذلك برفع مستوى الفكر والمعنويات الإنسانية وبناء البشرية ليتمكنوا من الوصول إلى المرحلة اللاحقة.
ويبين القرآن الكريم هذه الحقيقة ضمن آيات عديدة سواء عن الحديث عما جرى على الأنبياء، أو عن ذكر الحقائق المرتبطة بعامة الأنبياء لأجل إطلاع وتسلية خاتم الأنبياء عليه السلام والمسلمين وجميع من سيتبع طريق الأنبياء.
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ (المؤمن: 51-55).
* في سورة الأنبياء ذكر انتصار الأنبياء وهزيمة المتجبّرين والمعاندين
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 11-13).
ثم، بعد عدة آيات يذكر القرآن ما جرى على إبراهيم عليه السلام.
﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 69-73).
* الإلتزام والإيمان بالنبوة
في خاتمة أبحاث النبوة، فإن أكثر المسائل العملية التي تقبل الطرح هي أن قبول دعوة النبي بالالتفات إلى فلسفة النبوة ومضمونها وروحها وجوهرها متلازمة مع قبول الالتزام الواقعي الحتمي. أي إن الذي يؤمن بدعوة النبي ينبغي أن يتبع خطوات النبي ويؤازره في المسؤولية الملقاة على عاتقه.
ويكون هذا في الحقيقة دليلاً على إيمانه بالنبوة.
إن النبوة هي التي تحدث جواً فكرياً جديداً، وتطرح طريقاً جديداً وهدفاً جديداً أيضاً. فالمؤمن هو الذي يؤمن بفكره ويتبع طريقه ويتجه نحو هدفه. وليس بالضروري للمعارض أن يعارض، بل يكفي أن لا يتبع. فكل من يقف في الوسط بين النبي ومعارضيه ليس مع النبي وليس منه، فكل من ليس معه فهو عليه. وقد أُعلن عن هذه الحقيقة ضمن عشرات الآيات القرآنية بشكل واضح وغير قابل للتردد:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: 72-75).
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران: 81-82).
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة: 5).