عفاف سعد الدين
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاً﴾(الإسراء/23). إن للوالدين مقاماً وشأناً عظيماً يعجز الإنسان عن إدراكه ومهما حاولنا وجاهدنا وأمعنّا وأحصينا فضلهما فإننا نبقى قاصرين عن تصوير جلالهما وحقهما على الأبناء وكيف لا وهما سبب وجودهم وعماد حياتهم وسر بقائهم. مقام الأم مقدس ومقام الأب عظيم، فهل أنت بار بهما؟ وهل ترفع صوتك في حضرتهما؟ هل تنظر إليهما بغير نظر الرحمة والمحبة؟ كيف تكون باراً بوالديك وتتحاشى العقوق؟ لقد بذل الوالدان كل ما أمكنهما على المستويين المادي والمعنوي لرعاية أبنائهما وتربيتهم وتحملا في سبيل ذلك أشد المتاعب والصعاب والإرهاق النفسي والجسدي وهذا البذل لا يُمكن لشخص أن يعطيه بالمستوى الذي يعطيه الوالدان.
* مقام الأم
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (لقمان/14). وأوصى نبينا محمد صلى الله عليه وآله رجلاً أتاه قائلاً يا رسول اللَّه من أبِرّ؟ قال أمك، قال: ثم من؟، قال: أمك، قال: ثم من؟، قال: أمك، قال: ثم من؟، قال: أباك. في الحديث: "الجنة تحت أقدام الأمهات"!! كذلك نجد حق الأم على لسان الإمام علي بن الحسين زين العابدين د بأفضل تعبير وأكمل بيان حيث يختصر عظمة الأم وشموخ مقامها في كلمات ويصور عطاءها بأدق تصوير وتفصيل ويقول د: "فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً، وأنها وَقَتْك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها و... وجميع جوارحها مستبشرة بذلك فرحة ... (كثيرة عطاياها) محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها حتى دفعتك عنها يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فَرَضِيَتْ أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء وثديها لك سقاء ونفسها لك وقاءاً تباشر حر الدنيا وبردها دونك، فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلا بعون اللَّه وتوفيقه".
* مقام الأب
أما حق الأب فلا يقل أهمية وجلالاً عن حق الأم فهو يمثل الأصل والابن هو الفرع وقد أمضى حياته وشبابه بكد واجتهاد وعمل دؤوب للحفاظ على أسرته وتأمين لقمة العيش لحياة هانئة مستقرة لأولاده فتعب واقتحم المشقات والصعاب في هذا السبيل. وفي ذلك يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأما حق أبيك فتعلم أنَّه أصلك وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه واحمد اللَّه واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا باللَّه".
* ما هو العقوق؟
من أقبح الأخلاق في الدنيا نكران الجميل وعدم مكافأة الإحسان وكلما عظُم الجميل والإحسان كان جحودهما أكثر جرماً وأفظع إثماً ومن هذا المقياس نقف على خطر العقوق بالوالدين والذي يعتبر من الكبائر الموجبة لدخول النار لأن العاق ضميره مضمحل فلا إيمان له ولا خير في قلبه ولا إنسانية لديه، لذلك حذّر الإسلام من عقوق الوالدين لما له من دلالات ونتائج كما عبر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "كن باراً واقتصر على الجنة وإن كنت عاقاً فاقتصر على النار". وقد حدد تعالى المستوى الأدنى لعقوق الوالدين في كتابه المجيد حيث يقول جلّ وعلا: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًاً﴾ (الإسراء/23). وعن هذا الحد يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "لو علم اللَّه شيئاً هو أدنى من أفٍّ لنهى عنه وهو من أدنى العقوق" ويشير الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "من ينظر إلى أبويه نظرة ماقت وهما ظالمان له لم يقبل اللَّه تعالى منه صلاة".
* حدود الطاعة
لقد رسم اللَّه تعالى للإنسان حدود الطاعة لوالديه عندما قرن عبادته وتوحيده وتنزيهه عن الشرك بالإحسان إليهما والطاعة لهما وقد جعل رضاه من رضاهما ووصل طاعته بطاعتهما فقال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ (الإسراء/24). وإلى ذلك أشار نبينا ا قال: "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل اللَّه"، أما عندما يصل الأمر في الوالدين إلى الشرك ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ..﴾(لقمان/15).
* كيف نبر الوالدين بعد موتهما؟
من واجب الأبناء إحياء أمرهما وذكرهما من خلال زيارة قبريهما وقراءة الفاتحة لروحيهما والتصدق عنهما وإقامة مجالس العزاء لهما على الدوام. قال رسول اللَّه ا لرجل من أصحابه حين سأله: "نعم برّهما... الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما"... وفي حديث للإمام الصادق عليه السلام: "يصلي عنهما ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده اللَّه ببره وصلاته خيراً كثيراً ؟