الشيخ محمد زراقط
لقد حفلت كتب التراث الديني الإمامي بالكثير من فنون الدعاء وأدب مخاطبة الله تعالى بأعذب أسلوب وأرق بيان، حتى يمكن القول إن الأئمة عليهم السلام وإن لم يكونوا شعراء ومن أهل صناعة الشعر هم المؤسسون لنوع أدبي خاص هو الدعاء، الذي يحتوي على أعذب المعاني وأرقها وأعمقها نفوذاً في النفس الإنسانية. وإننا لا نوافق على المقولة المشهورة في تقييم الأدب والشعر، وهي مقولة: "أعذبه أكذبه"، بل إننا نرى أن أعذب الكلام هو أكثره صدقاً وأعمقه في النفس تأثيراً، سواء كان هادفاً أم لم يكن. فكيف إذا جمع الأدب إلى الجمال وعمق التأثير خصوصية التربية وإرادة الوصول بالإنسان إلى هدف سامٍ هو الكمال الذي أراده الله له. ومن أهم الأنواع الأدبية التي عرفها الشعر والأدب العربي، المدح والغزل، ولكن مشكلة المدح في كثير من النماذج هي عدم الصدق وكون المدح كلاماً مدفوع الأجر، أو صادراً عن خشية من الحاكم. ولكن مع ذلك، فقد عرف الأدب العربي قصائد رائعة على الرغم من عدم صدورها عن قناعة بما فيها من مضامين. والنوع الثاني هو الغزل وشعر الحب، وكلا هذين النوعين فيهما من الخصائص الجمالية التي جعلتهما من أشهر الأنواع الأدبية في الأدب العربي. ويأتي أدب الدعاء ليجمع جمال النوعين معاً مع خصوصية يفقدها كل منهما: هي خصوصية الصدق والخلو من الغرض. ولا يحتاج القارئ إلى الإشارة إلى نماذج من هذا النوع الأدبي، فإن كل مسلم يعرف نموذجاً من نماذج الدعاء بالحد الأدنى يؤديه في قنوت الصلاة، أو غيرها من المناسبات التي يشعر فيها بتوق ورغبة إلى مخاطبة مصدر العز والجمال، بل وكل ما في هذا الوجود من خير وهو الله سبحانه وتعالى.
* دعاء الافتتاح:
على الرغم من أن كل الأيام أيام الله، وأن أبواب السماء مفتوحة على مصراعيها تدعو الإنسان المؤمن إلى التماس الفيض الإلهي وتناوله، إلا أن بعض المناسبات والأيام لها خصوصياتها التي تمتاز بها عن غيرها من الأيام والمناسبات، ومن ذلك شهر رمضان من بين سائر أشهر السنة. فقد ورد الكثير من الأعمال المستحبة والأذكار التي يحسن بالمؤمن الاستفادة منها، ومن هذه الأدعية الدعاء المعروف بدعاء الافتتاح. وتجدر الإشارة إلى أن "دعاء الافتتاح" في الأصل اسم للدعاء الذي يستحب افتتاح الصلاة به قبل تكبيرة الإحرام، ومنه: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين". وقد سمي الدعاء الذي تستحب قراءته في كل ليلة من ليالي شهر رمضان بدعاء الافتتاح نظراً إلى مقدمة الدعاء، وهي: "اللهم إني أفتتح الثناء بحمدك". وربما كان من المناسب البحث عن أول من أطلق هذه التسمية على دعاء الافتتاح، إلا أن ذلك يحتاج إلى محل آخر غير هذه المقالة المختصرة.
* مصادر دعاء الافتتاح:
روي دعاء الافتتاح في عدد من المصادر ونسب في بعضها إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، وسوف أخصص هذه المقالة للتعريف ببعض هذه المصادر، لعل في تتبعها والتعريف بها فوائد، منها التعريف بالكتب الدعائية، ومنها الكشف عن أهمية الدعاء نفسه بعد الاطلاع على رواية العلماء العظام له.
الشيخ الطوسي: ممن روى دعاء الافتتاح الشيخ محمد بن الحسن الطوسي المتوفى عام 460ه. وقد رواه في كتابين على الأقل: أحدهما: تهذيب الأحكام الذي يعد أحد الكتب الأربعة الأساسية التي يقوم عليها بناء الفقه الإمامي، وهو كتاب مطبوع في عشرة مجلدات له طبعات عدة منها طبعة دار الكتب الإسلامية في طهران، تحقيق السيد حسن الخرسان. وثانيهما كتاب: مصباح المتهجد، المخصص لذكر المستحبات والأدعية والنوافل. وله طبعات عدة منها طبعة مؤسسة فقه الشيعة بيروت في 863 صفحة.
ابن طاووس: وممن يروي دعاء الافتتاح، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني الحسيني المتوفى عام 664ه. في كتابه "إقبال الأعمال"، حيث يقول: "فيما نذكره من دعاء الافتتاح وغيره من الدعوات التي تتكرر كل ليلة إلى آخر شهر الفلاح، فمن ذلك الدعاء الذي ذكره محمد بن أبي قرة بإسناده، فقال: حدثني أبو الغنائم محمد بن محمد بن أبي عبد الله الحسني، قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمد بن نصر السكوني رضي الله عنه، قال: سألت أبا بكر أحمد بن محمد بن عثمان البغدادي أن يخرج إليّ أدعية شهر رمضان التي كان عمه أبو جعفر محمد بن عثمان السعيد العمري رضي الله عنه وأرضاه يدعو بها، فأخرج إليَّ دفتراً مجلداً بأحمر، فنسخت منه أدعية كثيرة، وكان من جملتها: وتدعو بهذا الدعاء في كل ليلة من شهر رمضان، فإن الدعاء في هذا الشهر تسمعه الملائكة وتستغفر لصاحبه، وهو: اللهم إني أفتتح الثناء بحمدك وأنت مسدد للصواب بمنك....". وكتاب "إقبال الأعمال" لابن طاووس مطبوع في مجلدات ثلاثة من تحقيق السيد جواد الفيومي، طبع مكتب الإعلام الإسلامي.
الشيخ الكفعمي: هو الشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح العاملي الكفعمي، وهو منسوب إلى قرية من قرى جبل عامل، يقول الشيخ البهائي إن اسمها كفعيما، والنسبة إليها كفعيماوي وللتخفيف يقال كفعمي. وهو من علماء القرن التاسع الهجري توفي عام 905ه. له كتب عدة منها: "جنة الأمان الواقية وجنة الإيمان الباقية" المشهور بالمصباح، والبلد الأمين. وهو من العلماء الذين يروي عنهم الشيخ الحر العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة، والمحدث النوري صاحب مستدرك الوسائل.
الشيخ عباس القمي: ربما كان كتاب الشيخ عباس القمي "مفاتيح الجنان" من أشهر كتب الأدعية التي هي غنية عن التعريف. فقد روى الشيخ القمي دعاء الافتتاح في كتابه وجعله من جملة الأعمال والأذكار المستحبة في شهر رمضان المبارك، والشيخ عباس القمي هو أحد العلماء المهتمين بالأخبار والحديث وله كتب عدة منها: سفينة البحار، الكنى والألقاب وغيرهما وتوفي عام 1359ه.
السيد محسن الأمين: وأخيراً السيد محسن الأمين، واحد من العلماء القريبين من عصرنا ممن يروي دعاء الافتتاح ويذكره في كتابه المعروف "مفتاح الجنات" وهو من الكتب المهمة في مجال الدعاء وغيره من العبادات المستحبة، وقد طبع في ثلاثة مجلدات أكثر من مرة.
* ترجمة دعاء الافتتاح:
وقد شُرح دعاء الافتتاح وتُرجم إلى غير العربية منها ترجمته إلى اللغة الفارسية؛ ومن شروحاته: الرسالة الافتتاحية، لشهاب الدين العراقي، وهو الشيخ محمد بن موسى البرشلوني الكميجاني المتوفى عام 1313 وقد ألفه عام 1304ه. وترجم كذلك إلى الفارسية نظماً وطبع عام 1321ه. بطهران.
* الخاتمة:
يكشف ما تقدم من ذكر مصادر دعاء الافتتاح عن اهتمام العلماء بنقله وروايته وتوصية المؤمنين بتلاوته في شهر رمضان، وما يؤكد هذا الاهتمام تحول هذا الدعاء إلى أنيس للمؤمنين في الشهر الكريم يستعينون به في مخاطبة رب العزة والجلال والتماس فضله. ويمكن القول إن من أشهر النصوص في الدعاء بعد أدعية الصحيفة السجادية، دعاء كميل، ودعاء عرفة، ودعاء الافتتاح، وربما كان الأخير أشهرها على الرغم من اقتصار تلاوته على شهر رمضان، ولكن ما فيه من مضامين وأفكار تجمع بين الحمد لله والثناء عليه، والاهتمام بحال الأمة وشكوى همومها وغيبة وليها بعد فقد نبيها، كل هذه المضامين تدعو المؤمنين إلى التزود من هذا الدعاء في غير شهر رمضان. وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن الدعاء وسيلة من وسائل التقرب إلى الله والتودد له، والدعاء مجرد وسيلة. فعلينا جميعاً أن نحرص على أن لا يتحول الدعاء إلى طقس نؤديه كمن يؤدي ديناً في ذمته على قاعدة مكره أخوك لا بطل، بل لا بد من الحرص على أداء الأعمال المستحبة بقلب منفتح على الله، كي لا ينقلب الدعاء إلى عكس الغاية المرادة منه.