سماحة السيد حسن نصر اللَّه
أكد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في خطبته في استقبال شهر رمضان المبارك، على مجموعة من المعاني الإيمانية والأخلاقية والتربوية، التي يمكن أن نعيشها في هذا الشهر المبارك. فقد تضمنت خطبته دعوات نبوية إلى العمل الذي يجب أن نقوم به في شهر رمضان المبارك، والذي يجب أن نتمرن ونتدرب عليه لبقية الشهور والأيام من حياتنا. وهنا نتناول بعضاً من مقاطع هذه الخطبة بالشرح والتوضيح. عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال: "أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر اللَّه بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند اللَّه أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللَّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا اللَّه ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حُرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه". نتوقف في هذا المقطع من خطبة الرسول صلى الله عليه وآله عند بعض الكلمات والمعاني الواردة فيه:
* "إنه قد أقبل إليكم شهر اللَّه"
وصف الرسول صلى الله عليه وآله شهر رمضان بشهر اللَّه، مع العلم أن كل الشهور والأيام والليالي والساعات هي للَّه تعالى، فالزمان كله للَّه عزَّ وجلَّ، والمكان كله للَّه عزَّ وجلَّ، والوجود والخلق ملك للَّه الواحد الأحد. فإذا كانت الأزمنة وكل الشهور للَّه، فلماذا يتم التركيز على أن هذا الشهر بالتحديد هو شهر اللَّه، وإعطاؤه هذه الصفة وهذه الكرامة؟ إن اللَّه بحكمته ولطفه وجوده وكرمه يمكن أن ينسب بعض الأزمنة والأمكنة إليه انتساباً خاصاً كالمسجد الحرام الذي جعله تعالى بيته الأول وقبلة الناس، وكذلك فإن كل أرض عليها مسجد تكتسب قداسة خاصة، بحيث تختلف فيها المعصية عن غيرها من الأمكنة وتعتبر فيها العبادة أفضل من غيرها من الأمكنة. إن شهر رمضان هو زمان خاص اختاره اللَّه ونسبه إليه، ومعنى ذلك أن لهذا الزمان خصوصية وفضلاً وكرامة وحُرمة، وأن اللَّه تعالى في هذا الزمان سوف تكون له طريقة خاصة وأحكام خاصة وموازين خاصة في التعاطي مع الناس. ويكمل الرسول صلى الله عليه وآله ليؤكد هذا المعنى معتبراً أن هذا الشهر هو أفضل الشهور، وبالتالي أيامه ولياليه وساعاته أفضل الأيام والليالي والساعات، ويكفي أن نعرف أن ليلة واحدة من شهر رمضان المبارك بالنص القرآني هي ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ أي ليلة القدر التي لا شك ولا ريب أنها إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، وهذا تأكيد على فضل وعظمة وأفضلية هذا الشهر المبارك.
* "إنه قد أقبل إليكم شهر اللَّه بالبركة والرحمة والمغفرة"
يقول الرسول صلى الله عليه وآله إنه قد أقبل إلينا ويقبل في كل عام بالبركة والمغفرة والرحمة، يُقبل بمغفرة اللَّه لعباده المذنبين والخاطئين ومرتكبي الآثام والذنوب، ويقبل بالرحمة والبركة والعطاء والجود الإلهي، فاللَّه تعالى في هذا الشهر، يمن على عباده بالعطاء ابتداءً، وله عطايا وجوائز ومكافآت يمن بها عليهم ويوزعها عليهم.
* "هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللَّه وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه عزَّ وجلَّ"
هذا المقطع هو مفتاح كل الجمل الآتية، فالداعي هو اللَّه سبحانه وتعالى، والذي يخبر عن هذه الدعوة السنوية المتجددة مع كل هلال لشهر رمضان هو رسول اللَّه محمد صلى الله عليه وآله. وعندما نكون في ضيافة اللَّه ما هي مستلزمات هذه الضيافة؟ هنا نعود إلى الأدب والأخلاق الإسلامية، فنرى أن مما أكد اللَّه تعالى عليه استحباب الضيافة، ويقال إن شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام كان مضيافاً بحيث إنه كان لا يأكل طعاماً لوحده، وكان عندما يأتي وقت الطعام يخرج للشارع وينتظر بعض المارة ليستضيفهم إلى مائدته، فنرى أن من أدب الإسلام والأنبياء الضيافة، ومن أدب الضيافة حُسن الضيافة، لذلك فإن الضيف يُكرَّم ويُحترم ويوضع في صدر المجلس ويطعم من أفضل الطعام ويهيّأ له الاحترام والتقدير والراحة والطمأنينة، وهذا من المستحبات الأكيدة. أما عندما يكون اللَّه تعالى هو صاحب الضيافة ونحن الضيوف، فماذا نتوقع من هذا المضيف؟ نتوقع من هذا المضيف الذي هو اللَّه تعالى النتيجة التي قالها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه"، والكرامة هنا تعني الشرف والعزة والعظمة والجود والعطاء والكرم والحب والصفح... وهذه بعض معاني الكرامة. إذن نتوقع من اللَّه تعالى أن ينزل علينا الرحمة وأن يعطينا الشرف والعزة، وأن يمنَّ ويتكرم ويجود علينا، ويصفح ويعفو عنا، ويحبَّنا، وينظر إلينا نظرة رحيمة رؤوفة.
ولذلك ما دمنا في ضيافته تعالى ونحن أهل كرامة اللَّه عزَّ وجلَّ ينبغي أن نستفيد بقوة من هذه الأيام والليالي والساعات، وأيضاً ينبغي أن نلتفت إلى أنه، كما أن هناك آداباً للمضيف يُتوقع منه من خلالها أن يجود ويصفح ويعطي، كذلك في الأدب الإسلامي والإنساني هناك آداب للضيف. فعندما نكون ضيوفاً للَّه، فهذا له آداب والتزامات معينة، وهنا نعود للبشر، فإذا كان أحدنا ضيفاً على شخص كريم وعزيز وشريف وذي شأن، نجلس بأدب ونتحدث بأفضل الكلام، وتكون تصرفاتنا محسوبة. لذلك كما يجب أن نتطلع بعين الأمل والرجاء في شهر رمضان إلى رحمته ومغفرته وبركاته وجوائزه وعطاياه وهداياه وفضله وكرمه، يجب أن نتطلع بعين الخوف والوجل إلى أنفسنا وتصرفاتنا وسلوكنا في هذه الأيام والليالي، فلا نخطئ، ولا نأثم، ولا نذنب، ولا نرتكب ما هو خلاف الأدب مع اللَّه سبحانه، ولا نتجاوز حدوده، ولا نخالف أحكامه، ولا نعصي أوامره، ولا نرتكب نواهيه، هذا معنى أننا في ضيافته، و"ضيافة اللَّه" ينبغي أن نأخذ بها من الجهتين: من المضيف الذي هو أهل الكرم المطلق وما نتوقعه من كرامته، ومن طرفنا كعباد. يضيف الرسول صلى الله عليه وآله "أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب" هنا نجد الكرم من اللَّه سبحانه في هذه المعاني.
* "نومكم فيه عبادة"
بدأ بالعبادة وهي باختصار كل عمل محبوب للَّه تعالى وينوي الإنسان من خلاله أن يتقرب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، فالصلاة مثلاً سواء الواجبة أو المستحبة ويصليها الإنسان بنية القربى إلى اللَّه عبادة، والصوم عبادة، ويمكن أن لا تكون فقط العبادات الشرعية كذلك، بل إن كل عمل محبوب للَّه إذا نوينا فيه القربى يصبح عبادة. والملحوظ في العبادة أساساً أن فيها تعباً وجهداً كالصوم مثلاً من طلوع الفجر إلى المغيب، حيث يوجب أموراً كثيرة ينبغي أن نجتنبها. وأحياناً يكون النهار طويلاً، ففي الصوم مشقةٌ. والصلاة أيضاً فيها بعض المشقة، وكذلك بعض الصلوات المستحبة كصلاة الليل يوجد فيها مشقة أيضاً، الحج أيضاً هو عبادة، وفيه إنفاق للمال وسفر ومخاطرة وتحمُّل الشدائد والصعوبات، فالعبادة إذاً ليست عملاً سهلاً، بل فيها نوع من المشقة والجهد. هنا، نرى الكرم في شهر رمضان، حيث يحتسب اللَّه تعالى نومنا عبادة دون أي مشقة أو جهد، والنوم المشار إليه هنا هو النوم الطبيعي لا أن نقضي الصوم كله في النوم حيث يصبح كسلاً وتقاعساً عن الطاعات والواجبات.
* "أنفاسكم فيه تسبيح"
والتنفس هو حاجة طبيعية وضرورية ولا يمكن أن تمر لحظة دون أن نتنفس فيها، هذا التنفس الذي هو حاجة قهرية ويرتبط بها بقاؤنا على قيد الحياة، يُسجل عند اللَّه تعالى تسبيحاً، مع العلم أن التسبيح أيضاً جهد وهو أن يقول الإنسان ويكرّر ذكراً معيناً، وقد يكون مئات أو آلاف المرات ويحتاج إلى حركة من اللسان والنفس وإلى تأمل وتفكير لأن لقلقة اللسان ليست تسبيحاً، أما في شهر رمضان، فكل نفسَ هو تسبيح وله أجر وثواب المسبّحين.
* "وعملكم فيه مقبول"
العمل الذي يقبله اللَّه تعالى هو العمل الذي نقوم به طبقاً للموازين الشرعية ويثيب اللَّه عليه، ولكن هناك شرط لا بد من أن يكون موجوداً وهو صحة العمل. فهو لا يقبل الأعمال غير الصحيحة أو غير المنطبقة مع الموازين الشرعية، حيث توجد صلاة صحيحة وصلاة مقبولة، وهناك الصوم الصحيح والصوم المقبول، فقبول الصلاة أو الصوم هو درجة أعلى من صحة الصلاة أو صحة الصوم. فصحة الصلاة أن نؤديها تامة الأجزاء والشرائط ومن ضمنها النية وهي أن تنوي الصلاة قربة إلى اللَّه تعالى. وصحة الصوم، أن نجتنب فيه كل مفطِّر وننوي صومنا للَّه تعالى. أما القبول، فهو مرحلة أعلى. فمثلاً، في الصلاة إنما يقبل منها ما صلاّه الإنسان وهو متوجِّه إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بقلبه. لكن اللَّه سبحانه وتعالى في شهر رمضان بمقتضى الكرم يقبل من عباده كل عمل قاموا به صحيحاً وعلى الموازين الشرعية، ويخفِّف عنهم شروط القبول التي اشترطها في غير شهر رمضان.
يتبع في العدد القادم
(*) مقتطف من سلسلة محاضرات ألقاها سماحة السيد حسن نصر اللَّه في مجمع القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف.