الشيخ يوسف سرور
لئن كان الحديث عن الحياة مهماً، فهو لأن الحياة عزيزة على قلوب وعقول كل الأحياء. بل، يمكن اعتبار الحياة أهم ما يحرص على حفظه وصونه، واتخاذ كل إجراءات التأمين والسلامة للحفاظ عليها، العقلاء وأولو الحجى. بل أكثر من ذلك، إن الحرص الحثيث على الحياة، والاستئساد في السعي إلى حيازة مقومات الحياة، من الغذاء، إلى القوة، إلى العافية، إلى حماية الحقوق، إلى التأكيد على التناسل في سبيل استيلاد عوامل البقاء... كل ذلك ينتج عن اندفاع غريزي غير محكوم إلى ضوابط العقل، وأوامر الفكر، وإيحاءات التأملات.. إن ذلك يجري في حركة انسيابية تلقائية منطلقها الشعور بالوجود، والاحساس بالحياة. وهدفها الحفاظ على البقاء.. الحفاظ على الحياة.
انطلاقاً من هذا، فإن حماية النفس من الآفات والأمراض، والسعي إلى حفظها وتقويتها، وكذلك الاندفاع من أجل منع الاعتداء عليها، والنيل منها، واستلاب عوامل بقائها، إن ذلك هو أمر غريزي لا يحتاج إلى توجيه فكري؛ فضلاً عن استغنائه عن أي توجيه خارجي، شخصاً كان هذا الخارجي، أم فئة أم جماعة، أم ديناً أم فكراً أم أي أمر آخر.. هذا أولاً. وإن التوجه إلى حماية الحقوق والممتلكات الشخصية سواء أكانت حقوقاً ومملتكاتٍ ثابتةً، أو اعتبرها واضع يده عليها أنها حقوقه وممتلكاته، إن ذلك هو أمر غريزي مبني على حبِّ الحياة والسعي من أجل الحفاظ عليها. حتى أن الحفاظ على الجماعة، وعلى أفرادها وأماكن حياتها ونفوذها، والحفاظ على عوامل بقائها واستمرارها، دون أن يؤدي ذلك إلى إزهاق النفس وإتلافها، إن ذلك هو أمر غريزي، منطلقه غريزة حب البقاء، والصراع من أجل البقاء.
لكن اللافت هنا، هو أن هذا كله هو مما يشترك فيه الإنسان مع غيره من الأحياء غير العاقلة، باعتباره شأناً حيوانياً، غريزياً، ولا يَفْضُل فيه جنس البشر على غيره من الأجناس الحية. حتى أن بعض القيم الأخرى للحياة، والتي يقدسها البشر، كقيمة الحرية مثلاً والدفاع عنها، هي من القيم التي يتساوى فيها الجنس البشري مع غيره، وهذا مما لا يحتاج إثباته إلى دليل. الفضل للإنسان على غيره يرجع إلى الحديث عن القيم الأخرى، التي تثبت فيها إنسانيته، وتتحقق فيها أحقيته بالفضل والتقدم على بقية أهل الحياة.
إن مقدار ما يحوز الإنسان من القيم التي تخوله التقدم على من عداه من الممكنات، بمقدار ما تتحقق إنسانيته، ويثبت فيها أهليته للحياة الإنسانية، وبمقدار ما يجسد المرء والجماعة من قيم الإنسانية في حياته وسلوكه وتصرفاته، بمقدار ما يعبر عن حضوره وفعاليته وتحقق الغاية من امتيازه، بل ما يحقق نفس امتيازه، ويعبر عن إنسانيته. إن قيم العدالة، الاختيار، الاستقلال، السيادة، تحديد المصير، هي القيم الإنسانية، التي يتحقق بها امتياز البشر على بقية الأجناس. وإن قيم العطاء، التضحية، الإيثار، الصبر، الإقدام، الشجاعة، وقيم، التفكر، التدبير، الإعداد، الاستعداد، الاقتدار، الإدارة، المنافسة على الخير، حبُّ الآخرين، حب الأوطان.. كل هذه وتلك من القيم التي يجب توفرها، من أجل تجسيد وتحقيق تلك القيم الإنسانية الشريفة. وهذه القيم كلها، يشترك العقل والفطرة والقلب في كونها قاعدةً لها، تتشابك جهودها، وتتداخل أعمالها، وتتعاضد مساعيها، في سبيل تجسيدها.
من هنا، فأية ثقافة للحياة تلك، التي تتخلى عن هذه المبادئ وعن تلك القيم!؟ أية حياة تلك، الممزوجة بالمذلة والمهانة، المسلوبة الحرية والسيادة والكرامة، الخاضعة لسلطان الخيال وهوى النفس!؟ فالحياة حقاً، هي تلك التي تتحقق بسواعد المجاهدين، وأنفاس المضحين، وحبات عرق المرابطين... هي التي يحققها وينشدها أولئك الحسينيون الصابغة دماؤهم أفق الحياة بلونها القاني. الحياة.. هي تلك التي يحققها رجال اللَّه... لأنهم أرادوا ما أراد اللَّه!!!