مقابلة مع السيد عبد الحليم فضل اللَّه(*)
حوار: موسى حسين صفوان
هل يمكن القول إن القرن الحادي والعشرين ومنذ بدايته، حمل معه معطيات ثقافية جديدة، ربما تضع المجتمع البشري على عتبة متغيرات تتجاوز توقعات صناع القرار؟ أو إنه باختصار الوجه الآخر للعولمة، الذي لم تشأ دوائر الاستكبار العالمي أن تضعه في اعتبارها لأسباب مختلفة؟ صحيح أن العالم اليوم، بات أقرب ما يكون من القرية الكونية العظيمة، ولكنها على ما يبدو باتت أعظم من حدود التوقعات، إلى حدٍّ بدا أن آليات وأدوات القوى العظمى عاجزة عن إحكام السيطرة عليها... أسئلة كثيرة تتمحور حول طبيعة الحراك الثقافي في العالم، والتداعيات والوقائع الناشئة عنها، حملناها لجناب السيد عبد الحليم فضل اللَّه، نائب مدير المركز الاستشاري للدراسات.
* للعولمة صلة وثيقة بتكنولوجيا وسائل الاتصال، التي تساهم إلى حدٍّ بعيد في الحركة الثقافية المعاصرة، فكيف ننظر إلى العولمة، في هذا الإطار؟
للعولمة كما هو معروف ثلاثة أبعاد أساسية: البعد التقني، والبعد الاقتصادي السياسي، والبعد الاجتماعي الثقافي، وهي تتداخل فيما بينها، والمقصود بالبعد التقني هو تطور تقنيات الاتصال، على نحو عزّز القدرة على التواصل بين المجتمعات والدول، وخاصة في ظل انخفاض تكاليف الاتصالات.
* هل لنا أن نرسم صورة مجملة لتأثيرات وتداعيات هذا التطور في وسائل الاتصال؟
تطور تكنولوجيا الاتصال أحدث ما يعرف بثورة المعلومات، التي تركت تأثيرات هامة على سائر المجتمعات، على نحو أدى إلى حصول تداخل عميق بين الجوانب الاجتماعية والثقافية على امتداد العالم. وباعتباره السبّاق إلى تسخير هذه التكنولوجيا، فقد تمكن الغرب من أن يكون عقدة الوصل بين شبكات المعلومات الدولية، بمعنى أن ثورة المعلومات سرّعت نشر الأنموذج الغربي الثقافي والاجتماعي، وعززت بالتالي صعود الأحادية السياسية لأمريكا ومن ورائها الغرب، وقامت العلاقة بين الثقافات والشعوب بالتالي على أساس وجود ثقافة أعلى مهيمنة وأخرى أدنى مهيمَن عليها. وقد ترافق ذلك مع تغير في مزايا الرسالة الثقافية للغرب، بحيث أصبحت أقل عمقاً وأقل ارتباطاً بالإنجازات الفكرية الإنسانية المتراكمة، وأكثر ارتباطاً بما يجول على سطح الوعي، وبات هدف الوسائل الإعلامية والمعلوماتية هو التأثير على السلوك الإنساني ونمط الحياة أكثر من أي شيء آخر، بمعنى أن الرسالة التي ينشرها الغرب تحاول التأثير لا الإقناع وتغيير السلوك لا تغيير الأفكار.
* هل يمكن القول إن الغرب استطاع أن يحقق أهدافه في نشر مشروعه الثقافي؟ وما هي حقيقة الحملة الثقافية من كبار المثقفين على المشروع السياسي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية؟
يعتبر العديد من المفكرين الغربيين أن القضايا الاجتماعية والثقافية فضلاً عن القرارات السياسية أصبحت خارج متناول صندوق الاقتراع، ويتم التحكم بها من خلال القوى المهيمنة التي هي امتداد لسلطة الشركات المتعددة الجنسيات، والتي نجحت في نسج أساطير ونشر رموز مهمتها تمجيد الاستهلاك وتحويله إلى معيار للتفاضل الاجتماعي والثقافي. وقد استخدمت لضمان هيمنتها ومن خلال وسائل الإعلام العالمية، الفن والمنتجات الثقافية المختلفة من جهة، ومنظومة المفاهيم السياسية، مثل الديموقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان وغيرها من جهة أخرى... كل ذلك يهدف إلى تحقيق غايات لا تمت لتلك المفاهيم بصلة، وقد تجاهلت في الوقت نفسه ردود الفعل التي قد تنشأ في الأماكن المستهدفة. من ناحية أخرى، فإن هذا الاستخدام لم يأخذ بعين الاعتبار الزخم الفكري والتاريخي لهذه المفاهيم... كما أنه تجاهل حقيقة الممانعة الثقافية والاجتماعية لشعوب ومجتمعات ذات تاريخ عريق وثقافات راسخة، كان لا بد لها أن تبدي ردات فعل قوية تجاه استهدافها على هذا النحو. في المرحلة الأولى، بدا لمجموعة من المثقفين الغربيين مثل فرنسيس فوكوياما، وصموئيل هنتنغتون وجيرار برادلي ونيل جيلبرت وتوماس كوهلر وبول ولفو فيتز وغيرهم الذين وقعوا قبيل الحرب الأمريكية على العراق "بيان المثقفين الأمريكيين.. رسالة إلى العالم الإسلامي" أن بوسع الحرب أن تكون أداة مناسبة لنشر قيم سياسية عليا، مثل الديمقراطية... وأن بالوسع الفصل ما بين الغاية والوسيلة. وقد روّجوا لمقولة: الحرب العادلة، التي تعيدنا إلى مفهوم الحرب في أوروبا ما قبل عصر الأنوار. إلا أن النتائج المريعة للسياسات الأمريكية، وفشل هذه السياسات في إزالة الديكتاتورية من جهة، وبسط السلام ونشر القيم الديموقراطية من جهة أخرى، أيقظ الحس النقدي مجدداً لدى العديد من المثقفين الذين انساقوا وراء ردّة الفعل الجماهيرية ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، متناسين حينذاك أن الشعور العام جرى استغلاله من خلال ما يعرف بالمجمّع العسكري الصناعي، والمحافظين الجدد الممسكين بالسلطة في الولايات المتحدة... وقد ناقش فوكوياما في فصل من كتابه الأخير الذي أجرى فيه مراجعة لموقفه من الحرب الأمريكية على العراق نقداً دقيقاً لأفكار هؤلاء المحافظين الجدد... وبحصيلة المراجعة النقدية التي قام بها فوكوياما انتهى إلى أن الحرب ليست أسلوباً ملائماً لنشر ثقافة الديمقراطية، داعياً إلى مقاربة ودّية لهذا الأمر، ولو أنه لم يتراجع عن ضرورة تدخل الولايات المتحدة من أجل القيام بالتغيير اللازم في العديد من المناطق، وخصوصاً في الشرق الأوسط. وهذا يعني أن المراجعة التي قام بها المثقفون الذين أيدوا في البداية خيار الحرب، لم تصبح عميقة بما يكفي لإحداث تغيير جدي في الثقافة السياسية الأمريكية والغربية عموماً. هذا من دون أن نغفل دور نخبة واسعة من المثقفين الأميركيين والغربيين، الذين رفضوا منذ البداية السياسات والتوجهات الأميركية والقيم المرافقة لها، والتي انبثقت بعد 11 أيلول 2001، ومن بين هؤلاء أكثر من 2000 مثقف أميركي، وقعوا بياناً لمناسبة الذكرى الأولى لأحداث 11 أيلول أعلنوا فيه معارضتهم لسياسة بلادهم، التي قسمت العالم إلى محورَي خير وشر، وأطلقت العنان لروح الثأر، وفرطت بالحقوق الأساسية للشعوب والأفراد. ومن بين الموقعين: روبرت ألتمان، جيريمي ماثيو جليك، كريستين هارينغتون...
* يمكن القول إن الممانعة التي أبدتها الشعوب خاصة في منطقتنا للمشروع الأمريكي لها دخالة في المراجعة النقدية للمثقفين الغربيين، الذي هالهم ارتفاع كلفة الحرب وانعكاسها على البنية الاجتماعية الغربية، وفي هذا المجال كيف نستطيع الاستفادة من تقنيات العولمة من أجل تحصين مجتمعنا في مواجهة المشروع الثقافي الغربي في منطقتنا؟
بقدر ما تمثل العولمة ووسائطها من تحدٍّ لمجتمعاتنا، فإنها تمنحنا العديد من الفرص، لأسباب منها: أن التطور التكنولوجي أدّى إلى جعل استعمال هذه الوسائط أمراً لا مركزياً إلى أبعد الحدود، ولا يخضع لسلطات سياسية أو غير سياسية من أي نوع، ناهيك عن وفرة أدوات التواصل منخفضة الكلفة، بمعنى آخر فإنه بالإستفادة من العولمة أمكن تحرير أدوات الاتصال، وهذا ما أدى إلى ردم الهوة المؤسساتية التي تفصل بين العالم الغربي والعالم الإسلامي.
وعليه، فإن مواجهة المشروع الثقافي الغربي بالاستفادة من هذه الوسائط يقتضي العديد من الأمور:
1- تفعيل المبادرات المحلية والشعبية والمدنية في مجتمعاتنا الإسلامية، بحيث لا تبقى عملية مواجهة التحدي الغربي حكراً على المؤسسات الكبرى والدول. ولا يمكن تصور إمكانية ما للتعامل مع هذا المشروع إذا لم يتوفر وعي مدني متقدم في المجتمعات الإسلامية، وهذا شرطه الأول توفير قدر من الحريات يجعل من توسيع قاعدة المبادرة أمراً ممكناً.
2 - تطوير الرسالة الثقافية والفكرية التي تحمل المضمون السياسي الذي نريد نشره، إذ أن الأفكار التي تؤثر في رسم مستقبل البشرية هي تلك التي تتمتع بالقدرة على الإقناع، والقدرة على الفعل والتأثير في مدى عالمي، وليس فقط محلي... فهناك مشكلة في العالم الإسلامي، وهي أنه يبدو في كثير من الأحيان مخاطباً نفسه ومجتمعاته، ولا يمكن لرسالة تتجاهل التأثيرات والردود المتوقعة لمجتمعات أخرى، أن تمثل رداً حقيقياً على التحدي الثقافي الغربي. وبمراجعة سريعة للنتاج الثقافي والفني والإعلامي المنشور عبر الانترنت، يتبين بوضوح أن النمط التقليدي هو الذي يسيطر على المضمون، وأن الرسالة موجهة للمجتمعات الإسلامية نفسها دون الأخذ بعين الاعتبار مدى تقبل هذا المضمون لدى الشعوب الغربية.
3 - الاستفادة من وسائط العولمة لتقديم المضمون الثقافي المتحرر من المحمول المحلي، والقادر على الانتشار العالمي، وذلك سوف يؤدي، لو أحسنّا استخدام وسائط العولمة، إلى بناء فضاء إعلامي عالمي مستقل، يمكن من خلاله تطوير ثقافة إسلامية نقية متحررة من الضغوطات غير الملائمة للعادات والتقاليد والموروثات المحلية، التي ساعدت في السابق في انتاج إسلام شعبي مغاير لصورة الإسلام المحمدي الأصيل.
4 - الاستفادة من وسائط العولمة لتعميم التواصل مع شرائح مختلفة من المجتمع الغربي، تتجاوز السلطات والمؤسسات المهيمنة، وتحقق التواصل الواسع النطاق مع كل مكونات المجتمع الغربي ومكونات الرأي العام من المثقفين والهيئات والشخصيات الناشطة في الشأن العام، بما يتيح إمكانية المراكمة الإيجابية خلال فترة مقبولة من الزمن، وصولاً لإحداث فرق في الوعي الغربي، يساعد على تغيير الكثير من الانطباعات الجاهزة عن العالم الإسلامي، وبالتالي، تحويل شرائح من تلك المجتمعات إلى حليف موضوعي لقضايا العالم الإسلامي وتوجهاته الثقافية وغير الثقافية.
* كيف يمكن أن تتحول هذه الأفكار إلى خطوات عملية؟ ومن يتحمل المسؤولية في تحقيق هذا المشروع الثقافي؟
المسؤول الأول عن تفعيل شراكة المسلمين في العالم هو القوى الحيّة الفاعلة داخل مجتمعاتها، ويمكن أن نذكر في هذا المجال:
أولاً: الهيئات الدينية الرشيدة على اختلاف توجهاتها، باعتبارها مسؤولة ابتداءً عن إطلاق موجة إيجابية للتعاطي مع التقنيات الجديدة، والمساهمة بشكل أساسي في إعادة صياغة الرسالة الثقافية، على نحو يلائم المبادئ والمعايير الإسلامية من جهة، ويؤدي إلى تطوير المضمون الفكري لتحقيق التواصل من جهة أخرى.
ثانياً: لدى العالم الإسلامي رصيد من المؤسسات الإعلامية والثقافية والاجتماعية والفكرية، ينبغي أن تقوم بدورها كاملاً على صعيد المشاركة المشار إليها. وهذا لا يتيسر إلا إذا وضعت في صلب اهتمامها أهمية التواصل مع الآخر، وضرورة نشر الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي على أوسع نطاق، يتجاوز حدود المجتمعات المحلية ويقتحم عتبة العالمية.
ثالثاً: القوى السياسية في المجتمعات الإسلامية، هي الأخرى، تقع على عاتقها مهمة تقديم أنموذج صالح كي يتم البناء عليه في إعادة رسم صورة الإسلام والمسلمين في العالم، وفي بلورة الجوانب السياسية التي تؤثر في المشروع الثقافي الإسلامي. إن صورة الإسلام على المستوى السياسي والثقافي يتم تشويهها ليل نهار في الغرب من خلال الإمبراطوريات الإعلامية الواسعة الانتشار، مستفيدة من ممارسات التيارات الظلامية في المجتمع الإسلامي، التي تلحق الأذى والضرر بالمشروع الثقافي الإسلامي، مقدمة خدمة مجانية لمن يريد أن يسم مجتمعاتنا بالتخلف خدمة لمشاريعها الاستكبارية. من هنا تبرز الحاجة للدعوة لمشروع استنهاضي شامل، يجند الإمكانات والطاقات كافة، بحيث لا نفوّت من جديد فرصة أن يكون للإسلام خطابه الثقافي الذي يساهم في صناعة مستقبل البشرية على أساس من قيمه الأخلاقية والإنسانية.
(*) نائب مدير المركز الاستشاري للدراسات