د. طلال عتريسي
تثير قضية التغير التي تتعرّض لها القيم الكثير من القلق في عالم اليوم. فقد تقدّمت على سبيل المثال قيم المنفعة والفردية على حساب قيم التعاون والتضحية. وأصبحت قيمة الحرية أعلى وأقوى من قيمة الالتزام أو الانضباط بالمعايير الاجتماعية والتقيّد بها... وهكذا.
*هل هو صراع الأجيال؟
وما يزيد من هذا القلق أنّ الأجيال الشابة هي التي تتأثر بهذا التغيّر حتى في المجتمعات الإسلامية. وقد اختلف الباحثون في تفسير أسباب هذا التغيّر وفي كيفية التعامل معه، بين من اعتبره أمراً طبيعياً نظراً للتغيّر الذي يحصل بين جيل وآخر من حيث التطوّر في وسائل الاتصال وفي أدوات المعرفة، وبين من ذهب إلى اعتبار الأمر صراعاً بين الأجيال، أي بين ما هو تقليدي وبين ما هو حديث. فيميل الشباب عادة إلى الأخذ بكل ما هو حديث في حين يرغب الكبار في المحافظة على ما هو تقليدي وقديم. ولذا تنشأ الهوّة بين الطرفين في تحديد ما هو جديد وما هو قديم، وما هو أفضل وما هو غير صالح...
وقال آخرون في تفسير هذا التغيّر في القيم: إن العولمة هي التي وحّدت السلوك والأذواق وجعلت التأثيرات الغربية الخارجية وكأنها تأثيرات داخلية تحصل في داخل البيت، وفي داخل القرية، وفي كل مؤسسات المجتمع التربوية والثقافية. وقد تأثّر الجيل الشاب بهذه العولمة فتغيّر سلوكه تجاه المجتمع وتجاه القيم، في حين أنّ أجيال الراشدين أقلّ قدرة على التكيّف مع هذه العولمة وأقلّ اندفاعاً للتعامل معها، ولذا تزداد الهوّة بين الطرفين.
*تغيّر القيم
لا شك أنّ ما تعرّضت له القيم من تغيّر أو من تراجع إنما يعود إلى نمط التربية الذي لم يعد كما كان في السابق. بمعنى أن السلطة التربوية التي كانت تفرض القيم وتنقلها إلى الأجيال الجديدة قد تراجعت، ولم يعد المربّي أو من يقوم بهذا الدور حتى في المنزل (الوالدان) له تلك السطوة أو الهيبة التي تسمح له بفرض ما يشاء من القيم على الأبناء أو على التلاميذ. وعندما تراجعت هذه السلطة تراجع معها الالتزام بالقيم والتقيّد بها، بحيث بات من السهولة أن نلاحظ كيف لا يعبأ الجيل الشاب بالقيم نفسها التي كان عليها الجيل السابق...
في كل الأحوال هناك إجماع على التغيّر الذي حصل في قضيّة مهمة هي قضيّة القيم. وهناك اتفاق على حجم الصعوبات المتعلقة بكيفيّة التعامل مع هذه القضيّة. فهل هذا يعني أن القيم ينبغي أن تكون ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الأزمان وبالتالي يجب أن تفرض على كل جيل، أم أن الأمر هو خلاف ذلك، أم أن الآداب العامة التي يتعارف عليها الناس في أي مجتمع هي التي تتغيّر وبالتالي لا ينبغي التشدّد في التمسّك بها؟ وإلى أيّ حد تختلف الآداب عن القيم؟
*أدّبوهم بغير آدابكم
الحديث المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول: "لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"1 يعني أن الآداب هي التي يمكن أن تتغير، لا بل يجب أن تتغيّر بحيث لا نفرض على أولادنا ما تربّينا عليه نحن من آداب أو عادات. لكن المسألة مع ذلك ليست يسيرة، إذ كيف نفصل أو نميّز بين ما هو قِيَم ينبغي المحافظة عليها، وبين ما هو عادات أو تقاليد أو آداب عرفية لا يجب التمسك بها؟
وإذا كانت القيم هي كل ما يتصل بالأخلاق في المجالات المختلفة السلوكيّة والاجتماعيّة والعائليّة وهي التي يجب التمسّك بها وعدم التنازل عنها، فإن الآداب هي كل ما يتعلق بالتّقاليد والذوق والعادات وأساليب العيش. والآداب العامّة هي ما يتعارف عليه المجتمع في مرحلة زمنيّة محدّدة.
وإذا أخذنا مثالاً عما يمكن أن نعتبره عادات أو آداباً عامة كتعليم الفتيات، أو خروجهن من المنزل، فإن هذا الأمر كان مرفوضاً، ولا يمكن القبول به في البيئة الإسلامية، قبل نحو قرن من الزمن. إذ كان الأدباء والمصلحون والمفكّرون يدعون إلى تعليم الفتاة في ذلك القرن تعبيراً عن تطلّعهم إلى التطوّر والرقي.. وكان من الصّعب أو النّادر أن تشاهد فتاة في ذلك الزمن وهي خارجة من البيت بمفردها، أو ذاهبة إلى المدرسة. فقد كان ذلك يُخالف الآداب العامة. وإذا جلس الولد إلى طاولة الطعام مع والديه كان الأمر مخالَفة للآداب العامة في زمن ماض. وإذا ارتدى الرجل قبّعة بدل الطربوش كان يخالف بذلك الآداب العامة. وإذا اهتمّ أحد ما بفن من الفنون مثل الرسم أو التصوير أو المسرح كان ذلك موضع استنكار واستغراب من المجتمع... بهذا المعنى تعتبر الآداب غير ثابتة. ولا يمكن أن نفرض على كل جيل أن يلتزم الذوق نفسه في الفن أو في الأدب أو حتى في سنِّ الذهاب إلى المدرسة، أو حتى في طريقة التعليم التي كانت تعتمد الضرب والقسوة وكان الأهل يقولون للمعلّم عندما يذهب ابنهم لأول مرة إلى "الكتّاب": "اللّحم لك والعظم لنا". بمعنى أن لك حرية التصرّف في جسد الطفل من حيث الضّرب والقصاص ولكن شرط أن لا يؤدي الأمر إلى كسر ما في عظام هذا الطفل. وكانت المدارس بجوار المساجد..
هكذا فعل السابقون وكان من عاداتهم أن يقدّموا الهدايا للمعلّم، عندما يختم الولد جزءاً من القرآن الكريم.. هكذا كانت عادات التعليم وآدابه في أزمان غابرة.. وهذا ما لا يمكن الاستمرار به في هذه الأزمان ولا يمكن أن نفرضه على الأجيال الجديدة...
*اختلاف الآداب مع الأجيال
بهذا المعنى، إن الآداب السابقة التي أشرنا إليها ليست ملزمة لكلّ الأجيال. ولعلّ هذا هو المقصود من حديثه عليه السلام عندما يقول: "لا تقسروا أولادكم على آدابكم..". إذ لا يجوز في هذا العصر، على سبيل المثال، أن نفكّر ولو للحظة أن نمنع الفتاة من التعليم، بل العكس هو الصحيح. وإذا كانت آداب الطعام تفرض في عصور ماضية تناول الطعام باليد و"نهش اللحم" بلا سكين، فهذا ما لا يمكن القيام به اليوم، لأنّ آداب الطعام تغيّرت.. كذلك الأمر فيما يتعلّق بوسائل الاتصال التي أصبحت اليوم أكثر سهولة. وقد غيّرت هذه الوسائل في طبيعة العلاقات بين الأفراد، وبين الأبناء والآباء.. ولا يمكن اليوم العودة إلى السابق والاستغناء عن هذه الوسائل بحجّة أنها تختلف عن وسائل السّابقين في التواصل أو حتّى في تحصيل المعرفة.
*القيم أكثر ثباتاً
لكن بالمقابل، إنّ القيم هي شيء مختلف تماماً. القيم يفترض أن تكون أكثر ثباتاً، خصوصاً عندما نتحدّث عن القِيم الأخلاقيّة والسلوكيّة والتربويّة. ربما يختلف بعض القيم وطريقة التعبير عنها بين جيل وآخر، مثل القيم الجمالية. فهذه القيم لا نستطيع أن نفرضها، أو أن نتشدّد في ثباتها، إنها تعبير عن تحوّلات ثقافيّة في المجتمع لها علاقة بالفن والأدب والجمال والموسيقى، وغير ذلك مما يفرض نفسه فيتحوّل إلى قيمة جماليّة لم تكن موجودة سابقاً، لكنّها لا تكون مؤثّرة على القيم الأخرى. بهذا المعنى القيم الجماليّة هي قيم فردية.
لكنّ القيم الأخرى الأخلاقيّة، والسلوكيّة، والدينيّة وغيرها هي التي يفترض أن تكون ثابتة من حيث المبدأ، ولا يمكن أن نتركها للذّوق الخاص أو لكي يتعامل معها كل شخص كما يريد. فلنأخذ الأمثلة على ذلك:
تفرض القيم الأخلاقية على المستوى السلوكي، وبحسب المنظور الإسلامي، مجموعة من الالتزامات تجاه الآخر: القريب، والجار، والمحتاج... فصلة الرحم، هي قيمة أخلاقيَة لا يمكن التخلّي عنها مهما تغيّرت العادات، والتقاليد والآداب. والاهتمام بالجار قيمة أخرى، لا يمكن التّهاون فيها أو التراجع عنها، وكذلك مدّ يد العون إلى المحتاج... كل هذه القيم هي قيم ثابتة لا يمكن، ولا يجب أن تتغيّر، لأنّها من مرتكزات العلاقات الإنسانية التي يريد الإسلام تأكيدها في المجتمع.
* ما المتغيّر في القيم؟
نعم، من المحتمل أن تتغيّر طريقة مساعدة المحتاج، أي بدل الذهاب إلى منزله مباشرة كما كان يحصل الأمر في السابق، يمكن أن نرسل إليه المال، أو أي أغراض أخرى بواسطة مؤسسات متخصّصة في هذا المجال. وهذا التغيّر طبيعي ولا يمكن إلّا القبول به. وهو من الآداب التي تتغيّر من جيل إلى آخر...
كذلك فيما يتعلّق بالقيم العائلية، مثل التعامل مع الوالدين أو مع الأكبر سناً. القيَم هنا يجب أن تبقى ثابتة فلا تتبدّل، أي قيم الاحترام المطلق
﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ (الإسراء: 23).
هذه الجملة القرآنية هي دعوة أخلاقيّة لاحترام الوالدين وتقديرهما. وحتى لو حصل اختلاف في وجهات النظر (ولو وصل الأمر إلى شرك الوالدين) يجب أن تبقى القاعدة هنا هي الاحترام ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ (لقمان: 15). وهذا لا يجب أن يتبدّل بمرور الزمن. يجب أن يتربّى كلّ جيل على هذه القاعدة الأخلاقية. لأنّ هذه القاعدة تحفظ الأسرة من جهة وتعترف بفضل الوالدين وما بذلاه في حياتهما من أجل الأبناء. وهذا يعني أن نربّي الجيل الجديد على قيمة الاعتراف بفضل الآخرين علينا...
*هنا مكمن الخطر
القيم الأخرى السلوكية مثل قيمة التواضع، على سبيل المثال، هي أيضاً قيمة ثابتة
﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا﴾ (الإسراء: 37) ولا يجب أن تتبدّل. فالتّواضع له علاقة من جهة بالجانب النفسي عند الإنسان إذ يجعله أكثر هدوءاً واطمئناناً، وله علاقة بالجانب الاجتماعي الذي يجعل التواصل بين الناس أكثر مودّة من دون أي عراقيل. لأنّ التكبّر، وهو نقيض التواضع، لا يؤدّي سوى إلى التنافر والتباعد...
إنّ ما نشهده اليوم من تغيّر في كل الأوساط الاجتماعية، لا يقتصر على الآداب العامة أو على بعض العادات أو التقاليد. فقد اتّسع هذا التغيّر ليطال حتّى القيم التي اعتبرناها من الثوابت مثل القيم الأخلاقية والقيم الأسرية، وحتى في كيفيّة التعامل مع الوالدين... وهنا مكمن الخطورة التي تحتاج إلى التيقّظ وإلى البحث لمعالجة أسباب هذه التحوّلات ليس لدى الجيل الشاب فقط، بل ولدى مختلف الأوساط الاجتماعية.
إنّ القيم التي نفترض أن تبقى ثابتة مثل القيم الدينية والأخلاقيّة والقيم الأسرية لها أولوية على غيرها من القيم، وتحتاج أكثر من غيرها إلى من يهتمّ بها ويؤكّد عليها، وإلى من يمارسها بلا أي تهاون أو مبالغة، أمام الجيل الشاب وأمام الأبناء، لأنّ القيم ليست مجرّد مواعظ تُلقى أو محاضرات تُقال، بل هي أولاً وآخراً ممارسة عملية صادقة نعيشها مع أنفسنا ومع مَنْ حولنا...
1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج20، ص267.