سماحة السيّد هاشم صفي الدين
لجأ الأعداء إلى الحرب الناعمة لاعتقادهم أنّ الوصول إلى
الأهداف المرسومة غير ممكن عبر العمليّات العسكريّة. وبما أنّ المقاومة كانت واحدة
من أبرز القيم التي نحملها، كانت في معرض الهجوم من أعدائها.
* ترويج المغالطات ضد المقاومة
إنّ أحد أهداف الحرب الناعمة هو التشكيك، وإيصال الآخر سواء المنتمي أو المؤيّد،
إلى التشكيك.
لكن من العجائب والغرائب في هذه المرحلة أنّ من يستخدم مصطلحاً في اليوم الأوّل،
يغفل في اليوم الثاني عن قائل هذا المصطلح، ويبني عليه ويصبح كأنّ ما قيل هو
الحقيقة. وهذا من الأمور الخطيرة جداً. وقد قدّمت المقاومة رؤية قويّة ومقنعة
وواضحة؛ أنها تدعم الدولة وتقويها، وأن وجودها يساعد الدولة، وكلّ المصطلحات الأخرى
التي أطلقت مزيّفة يستخدمها الطرف الخاسر في المعركة.
* ثقافة الموت وثقافة الحياة
قدّم حزب الله للناس الحياة الكريمة. وكان هدف المجاهدين والمقاومة وكل العمل
المقاوم، دفع الاحتلال ومخاطره، وأن يعيش الإنسان في وطنه حياة كريمة. نعم، هناك
خلاف ونقاش مفهوميّ وثقافيّ كبير جداً، بيننا وبين الأميركيّ ومن معه من أصحاب
الحرب الناعمة.
فالحياة في مفهومنا هي حياة الإنسان الكريم
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70) وليس ممكناً أن يعيش الإنسان إنسانيّته وهو
مقيّد، ولذا نتحدّث عن إنسان ووطن كريمين وعزيزين.
من قال إنّ المقاومة، حين تقدّم هؤلاء الشهداء، تأخذهم إلى الموت، هم مخطئون، بل هي
تأخذ لبنان والعالم العربيّ والإسلاميّ والعالم كلّه إلى الحياة الحقيقية. ومن
يستَشهدون فهم كما قال عنهم الله سبحانه وتعالى في القرآن، وواجه أصحاب الحرب
الناعمة، إنهم أحياء، فرحون ويرزقون، وهم في حالة تضحيةٍ وإيثار. والقضاء على
التضحية، والإيثار، والغيرة، والحميّة والكرامة الإنسانيّة هي أحد الأهداف الخبيثة
للحرب الناعمة، التي تقوم على تبديل الثقافات.
وقد حاول البعض طرح مقولة سدّ الذرائع، وأنّ التسوية مع العدو تغلق باب الشرّ،
وتكسب المنطقة السلام والاستقرار. لكنّ التجربة مع العدو الإسرائيليّ والعدوّ
الأميركيّ لا تدع مجالاً للحديث عن سدّ ذرائع عن طريق مبدأ التسوية، لأنهم كلّما
وجدوا الطرف الآخر يتراجع خطوة إلى الخلف ازدادوا توغّلاً في الظلم والطغيان، ولا
يتردّدون أبداً في ذلك. وما يحصل اليوم في المنطقة يدلّ على ذلك.
* الحرب الناعمة وتبديل الأولويات
البعض يرى أنّ ما يحصل اليوم من فتنة مذهبية وتكفيرية هو من استراتيجيات الحرب
الناعمة لتبديل أولويّات حزب الله، فالقاعدة وطالبان وداعش هذه التشكيلات الفتنويّة
والأسماء أوجدها الأميركيّ وأجهزة المخابرات من أجل الفتنة، ولتقاتل أبناء دينها،
وأبناء جلدتها.
وأميركا، التي صنعت هؤلاء، تريدهم في الكثير من المواقع، مقابل محور المقاومة في
لبنان والمنطقة، في أفغانستان وفي العراق وسوريا وفي كل مكان في المنطقة وفي العالم
الإسلاميّ. أرادت أميركا أن تضع منطقتنا على نقطة حسّاسة وخطرة رعايةً لمصالحها.
لكن هل استطاعت أميركا بهذه الحرب الناعمة أن تبدّل أولويّات حزب الله..؟
قبل فترة، سأل أحدهم أحد الضبّاط الصهاينة، طالما أنّ المقاومة في لبنان لديها
انشغال وجبهات عدّة هل ما زال حزب الله التهديد الأوّل بالنسبة إليكم؟ كان جوابه:
أنّ حزب الله هو التهديد الأوّل، والخطر الأوّل على إسرائيل ووجودها. وهذا الجواب
كافٍ للردّ وهو وافٍ وواضح.
نعم، لقد تمكنت المقاومة من مواجهة هذه الحرب الناعمة، وستبقى تواجهها، مع كلّ
الواعين والمخلصين.
* أسرار القوة الناعمة لحزب الله
أولاً: نحن نواجه هذه الحرب الناعمة التي تشنّ علينا، ونحن في موقع الدفاع
عن أمّتنا، وعقائدنا، وثقافتنا، وقيمنا، وقضايانا المحقة.
ثانياً: نحن نقدّم فِكرنا وثقافتنا وقضايانا، بأدواتنا الصريحة والجريئة
لكلّ الناس، دون حاجة لأن نخفي شيئاً، فقضيّتنا محقّة وهي قضيّة المقاومة، وقضية
الدفاع عن بلدنا، عن قيمنا ومقدّساتنا وعن شعبنا.
ونتطلّع إلى مستقبل فيه السيادة الحقيقية، والاستقلال الحقيقيّ. ونحن قادرون، بإذن
الله تعالى، على أن نحصل على حقوقنا.
* استراتيجية حزب الله لمواجهة الحرب الناعمة
إذا كان الهدف الرئيس للحرب الناعمة التي تشنّ على المقاومة وأتباعها، النيل من
بنية هذا المجتمع ومعرفته، وآماله وتطلّعاته، فمن الطبيعيّ أن تكون مواجهة هذه
الحرب الناعمة متناسبة مع طبيعة هذه الأهداف لإحباطها.
وطبيعيّ، أن لا نواجه هذا الأمر لوحدنا، لا بدّ أن يكون هناك مستوى عالٍ من الحضور
الثقافيّ والإقناعيّ والتفاعليّ مع الجمهور، الذي يترتّب عليه أن يكون جزءاً من هذه
الحرب.
1. استراتيجية المعرفة: الحرب الناعمة تدبّ دبيب النمل. نحن نعرف ذلك. لذا، فإنّ
فضح الأهداف، والمشروع والنوايا لهذه الحرب يحتاج إلى الكلمة، والأساليب والطرق
المناسبة لذلك..
2. استراتيجية تحصين المجتمع المقاوم: ليكون بمنأى عن التأثر بأهداف الحرب الناعمة
التي تشنّها الإدارة الأميركية.
وهناك عدة طرق وعوامل للتحصين، منها:
أولاً: التأصيل الثقافيّ لتاريخ هذا المجتمع.
نحن في مجتمع غير منفصل عن تاريخه. وإننا نمتلك أصالة وهوية خاصة، وثقافة أصيلة، ما
يجعل هذا المجتمع منتمياً، وهذا يؤدّي إلى مستوى رفيع من التحصين.
ثانياً: الأصالة والثقة بالنفس.
نحن مجتمع نمتلك من القدرات البشرية والعلمية والمعرفية ما يخوّلنا أن نكُون مجتمعا
مستقلاً بمنأى عن مشاريع الآخرين. لأنّ إنهاك مجتمعاتنا حصل عندما فقد هذا المجتمع
الإحساس بالأمان في الاعتماد على ذاته، فاحتاج إلى الآخر. إنّ تنمية القدرة الذاتية
ليست عملاً ثقافيّاً فحسب، بل هي عمل ثقافيّ، توعويّ وجهاديّ.
ثالثاً: الحضور في المعركة.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ
أَن تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ (سبأ: 46) كما ورد في القرآن الكريم. يعني سواء قام
الإنسان لوحده أو مع غيره، النهضة هذه لا بدّ أن يقوم بها المجتمع كلّه، ويتحمل
مسؤولياته. لا يعقل لمجتمع يريد أن يقاوم هؤلاء الأعداء إلّا أن يكون في حال نهضة،
وإشراك الناس كلّ من موقعه في أن يتحمّل مسؤوليّـته.
* قِيم العولمة
من القيم التي يريدون ترويجها هي التي تعبّر عن الهيمنة بمعنى الأحاديّة، وتقديم
النموذج الأميركيّ على أنّه النموذج الأوحد الذي يحمل الأسرار والسحر لقلب
المجتمعات ونقل الناس من التخلّف إلى التقدّم، وفي ذلك، طبعاً، عولمة وإلغاء
للخصوصيّات.
ومصطلح العولمة يختلف عن العالمية. فالهدف من العولمة إلغاء الخصوصيّات للمجتمعات،
بدءاً من الخصوصيّة الثقافيّة إلى الاجتماعيّة والتربويّة... إلخ.
أما الإعلام المتفلّت، فهو الإعلام الذي أعطوه صفة الإعلام الحرّ، ليوهموا الناس
بالحريّة. نحن لا ننكر أهميّة وضرورة الحرية، ولكن هناك فرق بين الحرية الفعليّة
المقنّنة، والمقيّدة، والحريّة المطلقة، هذا إيهام وتلبيس على الناس، حتّى أميركا
في داخلها لا تعيش هذه الحريّة المطلقة، هناك قيود وضوابط. بعد 11 أيلول انتُهكت
الحريات كلّها.
وفي الخلاصة، أميركا تقدّم القيم التي تحاكي الغرائز والنواقص التي تعاني منها
الشعوب، في الوقت الذي نعرف أنّهم هم من صنع هذه المعاناة والمشاكل، ولكنهم يريدون
للناس أن تصل في نهاية المطاف إلى مجتمع استهلاكيّ غير منتج في العلم، والثقافة،
والاقتصاد.
(*) هذا المقال عبارة عن حلقة حواريّة حول الحرب الناعمة أجراه تلفزيون المنار مع سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين ضمن برنامج "أحسن الحديث"، بتاريخ ت2/2015م.