الشيخ محمد توفيق المقداد(*)
قال اللَّه سبحانه في كتابه الكريم ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء: 23 24). تتحدث هاتان الآيتان عن طريقة معاملة الولد لأبويه، فتأمرانه بأن يعاملهما بالإحسان والرفق وينظر إليهما بعين العطف والحنان والحب، وتنهيانه عن معاملتهما كأنهما غريبان عنه، كالنهي عن قول كلمة التأفف وهي أقل مراتب العقوق وصولاً إلى حد الصراخ عليهما وإيذائهما، فضلاً عن النهي عن عدم تأمين احتياجاتهما لو صارا في موضع العوز والحاجة والفقر. فهنا يكون أمل الوالدين كبيراً بأن ولدهما أو أولادهما سوف يقومون بواجباتهم الشرعية والأخلاقية والاجتماعية تجاههما.
* حسرة وغصة
إن القصة التي من أجلها كتبنا هذا الكلام عن عقوق الوالدين تحز في نفس الإنسان وتؤلمه، لأن الوالدين مهما عقهما ولدهما مع هذا يبقى قلبهما وعاطفتهما مع الولد، ولو مع حسرة وغصة ومسحة من الألم والحزن بسبب سوء معاملة الولد لهما مع حاجتهما إليه، في الوقت الذي صارا فيه عاجزين عن تأمين متطلبات الحياة، فالولد ولو كانت له زوجة وأولاد، فهو مطالب أدبياً وأخلاقياً وإنسانياً بتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لوالديه. وإذا سعى لهما في ذلك، فإن دعاء الوالدين في هذه الحالة قد يفتح أبواب الرزق المنغلقة أمام الولد بسبب تقصيره بحق أهله بحجة عدم القدرة المالية على تأمين متطلباتهما. وهذه الحجة الضعيفة والواهية ساقطة في نظر الإسلام وتعبر عن عدم ثقة الولد برحمة اللَّه الواسعة واللامحدودة، والتي قد تكون متوقفة على رعاية شؤون الوالدين ولو بالحد الأدنى الذي يقيهما مدَّ اليد إلى من قد يذلهما أو يقل من شأنهما. ولا أتصور أن ولداً عاقلاً سوياً يرضى لوالديه مثل هذه المواقف المتنافية مع كل ما ضحيا به من أجل ولدهما أو أولادهما. ولذا، نجد أن الإسلام نهى الولد عن أذية والديه، لأنها نوع من العقوق لهما وعدم الاهتمام بشأنهما. وهذا ما يثير في نفس الوالدين شعوراً بالمرارة والألم والغصة والجراح المعنوية والنفسية التي من الصعب جبرها بعد الانكسار، لأن الوالدين ينتظران من ولدهما أو أولادهما أن يكونوا على مستوى المسؤولية في التعامل معهما، لأنهما يعتبران أن جهادهما في تربية أولادهما ينبغي أن يعود عليهما بالفائدة والمنفعة عندما يصبحان في موضع الحاجة إلى دعم ومساندة أولادهما، لأن الأولاد ما كانوا ليبلغوا الرجولة وتحمُّل المسؤولية لولا تعب الوالدين وسهرهما على تأمين مستلزمات الحياة لفلذات كبديهما، عندما كانوا قاصرين عن تأمين أمور حياتهم.
* حرمة العقوق
حرمة العقوق واضحة في الإسلام من حيث المعالم والأبعاد الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية، لأن العقوق يتنافى مع كل ما يكون قد بذله الوالدان في سبيل أولادهما، بدءاً من حمل الأم لولدها في رحمها ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ (الأحقاف: 15) ثم تربيتها له، ثم الإنفاق عليه والاهتمام بأموره، والسهر في الليالي على راحته ورعايته عند المرض وعند الحاجة إلى وجود الأبوين إلى جانبه، ليمنحاه الحب والعطف والحنان، فيأتي الولد بعد ذلك ليمارس العقوق والأذية لوالديه، ففي ذلك إساءة وإهانة لمقامهما في نفسه الذي كان ينبغي أن يكون كبيراً وعظيماً عنده وعندهما بحسب نظرتهما إلى أنهما أبوان. ولا شك أن الإساءة لهما فيها ألم كبير لهما مع الهم والغم والحزن، إذ أن الوالدين يتوقعان من ولدهما أن يكون عطوفاً ورحيماً بهما، ومطيعاً عاملاً في سبيل هنائهما وراحتهما وسعادتهما. ولكن، عندما يقابلهما بالعقوق فذلك يثير في نفسيهما المرارة، ويؤدي إلى نوع من الفجوة والبُعد الروحي والمعنوي والنفسي بين الوالد وأبويه، مما يجعل عملية جبر هذا الكسر النفسي عملية صعبة ومعقدة جداً بعد ذلك، لأن الوالدين لا يكونان في وارد تصور حصول العقوق من ولدهما ولأن فيه ظلماً لهما، والظلم من القريب خصوصاً الولد تجاه والديه مؤذٍ بشكل كبير لا يشعر بآثاره السيئة إلا الوالدان دون غيرهما. من هنا حكم الإسلام بأن "عقوق الوالدين" من الذنوب الكبيرة، إذ توعَّد اللَّه من يكون عاقاً لوالديه بالعقاب في النار يوم القيامة، لأن العقوق هو عبارة عن اللؤم والتمرد على الإحسان الذي قام به الأبوان تجاه ابنهما، مع أن اللَّه يقول ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾. ونورد جملة من الروايات التي توضح العقوبات والآثار المترتبة على العقوق:
1- (إن أكبر الكبائر عند اللَّه يوم القيامة، الإشراك باللَّه عزَّ وجلَّ وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل اللَّه يوم الزحف، وعقوق الوالدين) رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(1).
2 - (يقال للعاق اعمل ما شئت فإني لا أغفر لك) رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(2).
3 - (حرَّم اللَّه عقوق الوالدين، لما فيه من الخروج من التوفيق لطاعة اللَّه عزَّ وجلَّ، والتوقير للوالدين، وتجنب كفر النعمة، وإبطال الشكر، وما يدعو ذلك إلى قلة النسل وانقطاعه لما في العقوق من قلة توقير الوالدين والاعتراف بحقهما وقطع الأرحام والزهد من الوالدين في الولد، وترك التربية بعلة ترك الولد برِّهما) الإمام الرضا عليه السلام(3).
* قضاء حاجة الوالدين
من أجل تجنب العقوق، أكد الإسلام على ضرورة أن يهتم الولد بأمر أبويه إذا كبرا في السن ولم يعودا قادرين على تأمين مستلزمات الحياة، وهو نوع من الاستنساخ للدور الذي قام به الأبوان عندما كان ولدهما صغيراً ومحتاجاً لرعايتهما الروحية والعاطفية والمادية كذلك، لأن الحياة أخذ وعطاء. فالأهل أعطوا عندما كان العطاء مطلوباً منهم، وعليهم الأخذ من الأولاد عندما يصبح الأخذ حاجة لهم، وهذه سُنَّة اللَّه في خلقه، ويكون الإحسان من الوالدين قد قوبل بالإحسان من الولد. وهذا الأمر مستحب جداً من الناحية الشرعية؛ بل قد يصل إلى حد الوجوب إذا توقفت حياة الوالدين على مساعدة أولادهما، مع ما في هذا التقرب من الوالدين من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند اللَّه يوم القيامة، حيث الكل مفتقر ومحتاج إلى رصيد فعل الخير للنجاة يوم الحساب في محضر القدرة الإلهية، ولأن قضاء حاجة الوالدين من موقع المحبة لهما والتقرب إلى اللَّه بذلك هو من أعظم الطاعات، وقد ورد ذلك في عدة من الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت عليهم السلام ونختار منها ما يلي:
1 - عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول اللَّه إن أبي يريد أن يأخذ مالي؛ قال له النبي صلى الله عليه وآله "أنت ومالك لأبيك"(4).
2 - عن محمد بن المكندر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: إن لي مالاً وإن لي عيالاً، وإن لأبي مالاً وعيالاً، وإن أبي يريد أن يأخذ مالي! قال النبي صلى الله عليه وآله: "أنت ومالك لأبيك"(5).
3 - "في تفسير قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾: الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً عما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين" الإمام الصادق عليه السلام(6).
ونختم بما جاء في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام عن حق الوالد حيث قال (أما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد اللَّه واشكره على قدر ذلك، ولا قوة بإلا باللَّه)(7).
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي في لبنان.
(1) مكاتيب الرسول صلى الله عليه وآله، ج2، ص573.
(2) بحار الأنوار، ج71، ص80.
(3) علل الشرائع، ج2، ص479.
(4) عمدة القاري، ج13، ص142.
(5) المصنف لعبد الرزاق، ج9، ص130.
(6) الكافي، ج2، ص157.
(7) ميزان الحكمة، ج4، ص3679.