الشيخ محمد توفيق المقداد(*)
قال اللَّه تعالى في كتابه الكريم ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ...﴾(المائدة: 55) وقال كذلك ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59). فالآية الأولى تدل على مَنْ يجب على الإنسان المسلم أن يتولاهم، وتدل الآية الثانية على من يجب على الناس أن يطيعوهم ويمتثلوا لأوامرهم وأحكامهم. ويتضح من خلال الآيتين أن هناك تلازماً جلياً بين الولاية والطاعة، بحيث لا يمكن الإنفكاك شرعاً بين الأمرين، فحيث تكون الولاية تكون الطاعة، ملازمة لها من الناحية الشرعية على المستويين العقائدي والفقهي.
* الولاية
معنى الولاية على ما يقول السيد الطباطبائي قدس سره في "رسالة الولاية" (هي الكمال الأخير الحقيقي للإنسان، وأنها الغرض الأخير من تشريع الشريعة الإلهية الحقة) وقال في معنى الولاية أيضاً (إنها تعني ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما). وهذا يعني أن يكون المطيع عارفاً لمن يطيع، وأن يكون المطاع عارفاً لماذا يُطاع، وأن يكون كل منهما المطيع والمطاع على حق في مبدأ الطاعة. والحق هو ما حدده الإسلام في هذه المسألة المهمة والمصيرية جداً، بمعنى أن لا يكون المطيع مخالفاً للمطاع الأصل، ولا يكون المطاع مغتصباً لحق ومقام المطاع الأصل كذلك، وإلا كانت باطلة وهي معصية بحد ذاتها من الطرفين، وليست مورداً للقبول عند اللَّه سبحانه وتعالى.
* الطاعة
الطاعة وضدها المعصية، والطوع والطاعة تعنيان الإذعان والإنقياد، يقال: طاع له يطوع إذا انقاد له. والعصيان خلاف الطاعة ومعناها المخالفة. والمراد بالطاعة في الآية الثانية هي طاعة اللَّه وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وطاعة أولي الأمر، والطاعة هذه من جنود العقل التي يصعد الإنسان بواسطتها إلى منازل الأبرار ويستعد لمرافقة الأخيار كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء: 69). وطاعة أولي الأمر لم يذكرها هنا في هذه الآية، لأن طاعتهم مأخوذة من الطاعة للرسول صلى الله عليه وآله بحسب ترتيبهم في الآية بعد طاعة الرسول صلى الله عليه وآله . ثم إن المراد من الطاعة في الآية هي طاعة الجميع كما عن الإمام الصادق عليه السلام: (وصل اللَّه طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله صلى الله عليه وآله )(1). وعليه فالمعصية المقابلة للطاعة هي ترك هذا المجموع، سواء كان بترك جميع أجزائه أو بترك بعضها، وهي رذيلة مندرجة تحت الجور وموجبة للدخول في النار، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء: 14).
من هنا، نقول بأن "الطاعة" هي عبارة عن تنفيذ الإنسان لكل ما يتوجه إليه من تكاليف صادرة عن الجهات التي تمتلك حق الإصدار، سواء فيما يعود إلى أمور الآخرة كالصوم والصلاة وغيرهما، أو بما يعود إلى أمور الدنيا كالنهي عن الكذب والغيبة والزنا والقتل وغير ذلك من الأحكام. ولا شك أن الطاعة ترفع المسؤولية الشرعية عن الإنسان المكلَّف الذي توجهت إليه التكاليف، وتُسِقْط عنه العقاب الذي كان سيتعرض له لو خالف وعصى. ولا بد من إلفات النظر إلى أن طاعة اللَّه هي الواجبة بالأصل، بينما طاعة غيره واجبة بأمر اللَّه عزَّ وجلَّ، ولذا تكرر لفظ "أطيعوا" في الآية للتفريق بين النوعين من الطاعة، وتبيان أن الطاعة لغير اللَّه ممن أمر بطاعتهم ليست لأشخاصهم، بل لأنهم مؤتمنون على إيصال ما أراده اللَّه من الإنسان من أمر أو نهي، باعتبار أن الإنسان يحتاج بشكل دائم إلى من يوجهه ويأخذ بيده، حتى لا تختلط عليه الأمور، ولا تشتبه عليه القضايا، فينحرف ويقع في طاعة من يجب عليه أن يعصيه ويخالف أمره، ويخسر بذلك آخرته وقد يخسر الدنيا أيضاً. ولذا، نجد أن أهل النار يقولون عن سبب دخولها ﴿... وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ (الأحزاب: 67) ويطلبون من اللَّه مضاعفة العذاب لمن أدخلهم النار فيقول على لسانهم في القرآن ﴿رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب: 68). من هنا، ينبغي بل يجب على الإنسان المسلم الملتزم وغيره أن يعرف من يطيع وكيف ولماذا؟ وبعد التحديد لمن يطيع، يجب أن تكون الطاعة كاملة غير منقوصة.
* أولو الأمر
الذين تجب طاعتهم بعد اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله هم الأئمة عليهم السلام الذين هم "أولو الأمر" الذين ورد ذكرهم في الآيتين المباركتين، وبعدهم في زمن الغيبة الصغرى والكبرى تجب طاعة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ الإسلام والدفاع عنه. وطاعة العلماء في زمن الغيبة قد وردت في نصوص عديدة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، كالنص القائل (مجاري الأمور بيد العلماء)(2). ومعنى أن مجاري الأمور بيد العلماء، يدل على السلطة والحاكمية والولاية وأن العالم والفقيه المبسوط اليد والقادر على الحكم والإدارة، هو الفقيه الذي نسميه ب"ولي الأمر" الذي تجب طاعته، وتحرم معصيته كالأئمة عليهم السلام تماماً. وأما الذي لم يصل إلى مستوى بسط اليد والحاكمية، فهو المرجع الديني الذي نأخذ عنه الفتوى لنعمل بها في غير مجالات "ولي الأمر" إذا كان مبسوط اليد ومتلبساً بالولاية والحاكمية. وولي الأمر هو الفقيه الجامع للشرائط الشرعية، من الاجتهاد، والعدالة، والتقوى، والكفاءة، وعدم حب الدنيا، وفهم العصر الذي يعيش فيه، والإحاطة بأموره بالطريقة التي تجعله مؤهلاً ليقود الأمة كلها نحو تحقيق مصالحها الدينية والدنيوية وإبعادها عن المفاسد، كذلك من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته وإرشاداته التي يجب على المسلمين طاعتها وعدم الانحراف عنها أو عدم الأخذ بها، لأن عدم الإلتزام يعني المعصية، وهي موجبة للعقاب، وهو موجب لدخول النار كما أوضحنا فيما سبق.
* مفاسد معصية أولي الأمر
لا شك أن معصية أولي الأمر تترتب عليها المفاسد الكثيرة التي قد تؤدي إلى انحراف الأمة عن الصراط المستقيم، أو إلى وقوع الأمة في مصائب وويلات هي بالغنى عنها لو التزمت ووقفت عند حدود التكليف الصادر عن ولي الأمر، وكمثال على نتائج المعصية نورد النموذجين التاليين:
الأول: معركة أحد، حيث تحول نصر المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وآله إلى هزيمة كادت تودي بحياة النبي صلى الله عليه وآله، لولا بسالة وشجاعة نادرتان ظهرتا من أبطال المسلمين وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
الثاني: معركة صفين، عندما شعر معاوية بالهزيمة أشار عليه عمرو بن العاص بحمل المصاحف على رؤوس الرماح، وكان من نتائج ذلك توقف المعركة ونجاة معاوية، ثم بعد ذلك حصل استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ووصول معاوية إلى موقع الخلافة الإسلامية. من هذين النموذجين عن المعصية، نفهم مقدار أهمية وضرورة الطاعة المطلقة لولي الأمر وعدم المعارضة أو الانتقاد، لأن إضعاف موقع ولي الأمر سوف ينعكس على الأمة كلها وعلى مجريات الأمور فيها، بما لا يخدم مصلحة الإسلام والمسلمين. من كل ما سبق يجب أن يدرك العاملون الرساليون والمجاهدون المخلصون وأبناء الأمة جميعاً أن الطاعة لولي الأمر والانسجام بينه وبينهم والتكامل معه هو الكفيل بالوصول بالأمة إلى أهدافها الدنيوية والدينية، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار أن ولي الأمر هو النائب عن الإمام الحجة عجل الله فرجه في إدارة الأمور، وأن مواصفاته الشرعية المطلوب تحققها فيه تمنعه من الخروج عن الضوابط والحدود الإسلامية في الحكم والإدارة ورعاية شؤون الأمة على كل المستويات.
* نماذج في زمن الغيبة
ومن نماذج ولي الأمر في زمن الغيبة نجد سيرة الإمام الخميني المقدَّس الذي أعاد المسلمين إلى دينهم وأعاد للإسلام دوره في إدارة أمور الأمة. ومن بعده نرى نموذجاً آخر لولي أمر المسلمين هو آية اللَّه العظمى الإمام الخامنئي دام ظله الوارف الذي يقود سفينة المسلمين نحو بر الأمان في بحر متلاطم من المؤامرات والفتن التي تدبرها القوى الاستكبارية، وعلى رأسها الشيطان الأكبر "أمريكا".
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي في لبنان.
(1) الكافي للشيخ الكليني، ج1، ص181 183.
(2) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج17، ص315 316، رقم 21454.