نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الغيب مرجعية العقل‏

الشيخ حسين كوراني‏

 



تختلف النظرة إلى المغيبات باختلاف الثقافة التي يصدر منها المتصدي لإبداء الرأي، ويمكن حصر الموقف بثلاثة آراء:
الأول: شطب المغيبات، بادعاء التناقض بينها وبين العقل.
الثاني: قبول المغيبات دون تثبت.
الثالث: اعتبار مبدأ الغيبيات سليماً ومنهجياً بكل معنى الكلمة، إلا أن الأصل في النفي أو الإثبات هو التثبت ودراسة الحالة بدقة، والحكم عليها تبعاً للنتيجة.
ومن الواضح بطلان الرأيين الأول والثاني، وسلامة الرأي الثالث.


كما أن من الواضح التفاعل سلباً بين الرأيين الباطلين، بمعنى أن الذين يشطبون المغيبات تأثروا سلباً بأولئك الذين يقبلون كل ما يصاغ بطريقة غيبية، ولو كان حديث خرافة، كما أن هؤلاء يستفزهم إنكار أولئك لكل ما تُشمُّ منه رائحة الغيب، فيبادرون إلى التوسع اللامنطقي في القبول دون تثبت كما تقدم. والنقطة المركزية التي تنشأ منها وجهات النظر المتعددة هي "ما قبل الثقافة" أي المكونات المعرفية التي تم اتخاذ القرار باعتمادها لإنتاج الثقافة، سواء كان هذا القرار وليد مدرسة الحياة، أو الإنتماء الدراسي إلى هذا الإتجاه الفكري أو ذاك. ولدى التأمل في هذه المكونات يتضح أنها على قسمين: الحس والعقل، باعتبار أن بوابة الإنسان إلى العالم الخارجي هي حواسه، ولكنه تارة يخضع ما يصله عبرها للعقل، وتارة يكتفي بانطباعه الذي يكونه دون مرجعية العقل، مما يجعله من مدرسة مرجعية الحس. ومن اعتاد أن يتعامل مع الحس كمصدر للمعرفة سيجد نفسه تلقائياً مشدوداً إلى الطين بألف وثاق، بحيث لا يمكنه تخيل وجود آخر خارج الحس وحدوده. ومن اعتاد أن يفكر بموضوعية ويُعمل عقله، مدركاً أن الحس قد يخطئ وبالتالي لا بد له من مرجعية، ولا مرجعية مباشرة في حركة الفكر لغير العقل، أمكنه أن يوقن بوجود عوالم أخرى وراء الحس وفوقه ليس العقل إلا الباب الذي يفتح بصيرته عليها ويقود خطاه في التعامل معها. وهذه العوالم الأخرى من السعة والإمتداد، بحيث لا تشكل الدنيا بل وكل عالم المادة الذي يمكن للحس أن يتعامل معه ولو بالخطأ، إلا ذرة صغيرة في صحراء مترامية الأطراف. وبديهي أن من يقرر أن يفكر بعينه وأذنه وسائر الحواس، لا يمكنه أن يدرك من هذه العوالم شيئاً، وهي عنده وهم وخيال.

* إلغاء العقل‏
وهذا يعني أن إلغاء العقل ليس إلا قراراً بسجن النفس في زنزانة المادة، التي لا يمكنها أن تقدم له تفسيراً لوجوده، فيمضي عمره في المعيشة الضنك: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (طه: 123 - 126). والمراد بالذكر هو الهدى الإلهي الذي لا يمكن أن يتعامل معه إلا أولو الألباب ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الرعد: 19).
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله: العقل نور خلقه الله للإنسان، وجعله يضي‏ء على القلب، ليعرف به الفرق بين المشاهدات من المغيبات(1).
- وعن أمير المؤمنين عليه السلام: لا دين لمن لا عقل له(2).
- وعن الإمام الصادق عليه السلام: من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة(3).
وما تقدم هو من حيث المبدأ الفارق بين المؤمن وغيره، فالمؤمن الحقيقي هو المؤمن بالغيب الذي يتعامل معه بعقله ولا يسمح لحواسه أن تلغي العقل والغيب معاً بإلغاء العقل، بل يبقي هذه الحواس في حدودها الطبيعية وسائل نقل للمدركات بالحس إلى العقل ليتخذ فيها قراره النهائي.
ومن هنا كان الإيمان بالغيب عصب الإيمان: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (البقرة: 2 - 3).

* العلم بالغيب:
والإيمان بالغيب غير العلم بالغيب، فباستطاعة كل إنسان أن يعتقد بالدليل والبرهان بوجود عوالم غيب، إلا أنه ليس باستطاعة أحد من الناس أن يعلم الغيب إلا إذا علمه العالم به سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (الجن: 26 28). ﴿َمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران: 179). فالعالم بالغيب هو الله تعالى إلا أنه يطلع على غيبه من ارتضى.

* التواصل مع الغيب:
والعلم بالغيب أيضاً غير الإنفتاح على الغيب والتواصل مع بعض مظاهره وحالاته، ولئن كان علم الناس بالغيب مختصاً بدائرة تبليغ رسالة الله تعالى، فإن التواصل مع الغيب ليس مختصاً بهذه الدائرة: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران: 37). ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (آل عمران: 42 48). ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (القصص: 7). ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(طه:38 39). (2) بإمكان غير النبي إذاً أن يتواصل مع عالم الغيب فتكلمه الملائكة، وتعلمه ما لا يعلم، وتأتيه برزق من عند الله. ولا دليل على انحصار ذلك بعصر دون غيره، بل هو مبدأ عام، يؤكده وقوع الغيبيات اليقينية في مختلف المراحل والعصور. وهو أمر شديد الوضوح لدى المؤمنين، لا يختلف فيه اثنان. ولكن وبالرغم من شدة هذا الوضوح، فقد استحكمت الشبهة في مقابل البديهة لدى من لا يحسن الرجوع إلى الثوابت العقلية لينطلق في التفكير على أساسها.

وهم على قسمين:
(1) غير المؤمنين، الذين لم يخل منهم دهر ولا بلد. وأمرهم أهون من غيرهم.
(2) و"المؤمنون!" الذين أنتجت ثقافتهم الإتجاهات الفكرية المادية، أو تحكمت بمفاصلها والناصية، فإذا بهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.

(*) بداية اللوثة المعاصرة:
بدأت اللوثة بنسختها المعاصرة مع بدء انتشار الثقافة الغربية في بلادنا، إثر ظهور علامات الضعف في جسم "الرجل المريض" وصولاً إلى إخضاع منطقتنا للسيطرة الإستعمارية، وعززها بدء انتشار الثقافة الشيوعية "الشرقية" المادية، حين حمل الجهل بعضنا على الإعتقاد بأنه لا خلاص في مواجهة الرأسمالية، إلا بالإرتماء في أحضان الإشتراكية أو الشيوعية. وهكذا أصبحت بلادنا والغالب من مكونات ثقافتها بين فكي التمساح المادي الذي ولغ في التهام العقول، فكان التيه المادي الذي لم يتح لنا فرصة النجاة منه إلا مع طلوع الفجر الخميني. وبديهي أن فرصة النجاة غير تحقق النجاة، إنها الفرصة السانحة لمن قرر أن يفكر ويعيد صياغة ثقافته على أسس عقلية علمية. والمؤسف أن ضحايا موجة الإفتراس المادي كانوا من الكثرة بحيث إن مثل هذا القرار لم يعد في متناول الأكثرين بيسر. لقد شملت الموجة المادية طيفاً لا يستهان به من المتصدين لنشر الثقافة الإسلامية فإذا بهم يتحدثون بلغة الغرب الرأسمالي، والشرق المادي، ويصرون على شطب كل ما يلوح منه الغيب والمغيبات، مما جعل المعروض من الفكر والثقافة الإسلاميين في الغالب هو ما ينسجم مع روح العصر المادية جملة وتفصيلاً.

لقد عمد هؤلاء إلى الإنتقاء، وجعلوا فهمهم المصفاة التي تقبل ما يقبله مزاجهم الهجين الذي هو وليد البيئة التي نشأوا فيها ولم يقرروا صياغتها في ضوء حقائق العقل والتوحيد. وحيث إن الكثيرين من هؤلاء يتحكمون بمفاصل التبليغ ونشر الثقافة، فالنتيجة الطبيعية هي قمع كل تفسير غيبي، ومحاربة كل ما يمت إلى المغيبات بأدنى صلة، مما جعل الناس عموماً في حيرة من أمرهم: يقرأون القرآن الكريم، فيجدون منطقه الغيب والإيمان به، ويسمعون السيرة، فإذا الملائكة حاضرون في بدر، وإذا المبدأ العام للنصر غيبي: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". ويتابعون سير الأولياء والعلماء فيرونها تطفح بالغيب والمغيبات، ويتأملون واقع الحال في المقاومة الإسلامية فإذا الإمداد الغيبي للمجاهدين مل‏ء العقل والوجدان، ويستمعون إلى أكثر الدروس والخطب، فإذا الطابع مادي حتى العظم! يتبع في العدد القادم‏
 


(1) محمدي الريشهري، ميزان الحكمة، ج‏3، ص 2038 نقلاً عن: عوالي اللآلي‏1 248.
(2) ميزان الحكمة 2038 3.
(3) نفس المصدر.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع