مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

التربية العقلية للإنسان

آية الله الشهيد مرتضى مطهري


* ضرورة توأمة العقل والعلم
المسألة الأخرى هي ضرورة مواءمة العقل والعلم معاً، وهذه النقطة مهمة جداً. فالإنسان المفكر الذي لا يمتلك قدراً كافياً من المعلومات مثل المصنع الذي لا يحتوي على المواد الخام أو أن مواده قليلة بحيث لن يتمكن من الإنتاج أو أن إنتاجه سوف يكون ضعيفاً. والعكس صحيح أيضاً فلو كانت المواد الخام كثيرة ولا عمل فإن الشلل سوف يحصل وبدون أي إنتاج.
في حديث الإمام الكاظم عليه السلام مع هشام يقول له عن الله عز وجل: "يا هشام ثم بيّن أن العقل مع العلم" وقد ذكرنا أن العلم بمنزلة تحصيل المواد الخام والعقل هو التفكر والاستنتاج والتجزئة والتحليل. ثم تلا قوله تعالى: ﴿وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

* تحرير العقل من العادات الاجتماعية
المسألة الأخرى هي تحرير العقل من سلطة المحيط والعرف والعادة وبتعبير اليوم: من سيطرة العادات والتقاليد الاجتماعية أو بتعبير العرب من الإيحاءات الاجتماعية. ويقول عليه السلام: يا هشام ثم دم الذين لا يعقلون فقال: ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.
فالقرآن يذم أولئك الذين يقعون أسارى التقاليد وأتباع الآباء والأجداد فلا يفكرون لنجاة أنفسهم من هذا الأسر ما هو هدف القرآن من هذا الذم؟ مما لا شك فيه أن الهدف هو أمر تربوي ويريد بذلك أن يوقظ الناس إلى أن المعيار الحقيقي ينبغي أن يكون الفكر والعقل.
وعندما راجعت الآيات القرآنية التي تتحدث عن التقليد الأعمى والأتباع للآباء وجدت الكثير منها، والأمر الذي لفت نظري هو أن جميع الأنبياء كانوا يواجهون أثناء دعوتهم بهذا الكلام ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون. ورغم أن أقوام الأنبياء كانوا بالنسبة للعادات مختلفين كثيراً إلا أنهم جميعاً كانوا يطرحون نفس الأشكال وهو مصيبة تقليد الآباء والأجداد. وكان جواب الأنبياء يتجه دوماً إلى إحياء العقل: ﴿أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

* الإمام الصادق عليه السلام والرجل التقليدي
هناك قصة معروفة تروي أن الإمام الصادق عليه السلام كان في زيارة لأحد أصحابه أو أحد رجال الشيعة وكان منزله صغيراً جداً.
ومن جانب آخر كان وضعه المعيشي يقتضي أن يكون منزله أكبر وأوسع. فقال له الإمام: لماذا تعيش في مثل هذا المنزل؟ من سعادة المرء سعة داره. فأجاب الرجل: يا ابن رسول الله! هذا منزل آبائي وأجدادي وقلبي لا يطاوعني في تركه. فقال عليه السلام: لعل أباك، كان لا يشر، أفأنت تريد أن تكون أسير عدم شعوره؟! أذهب وأوسع على عيالك.
وهذه نقاط مهمة. فالإنسان لا يلتفت من الناحية التربوية إلى ما يقوله هؤلاء؟ بينما القرآن يريد صناعة مثل هذه الأمة.

* عدم أتباع الأكثرية
ثم يتطرق الإمام الكاظم عليه السلام إلى موضوع آخر فيقول: ثم ذم الله الكثرة، فقال: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل .
وهذه الحرية من سيطرة العدد، وإلغاء معيار الأكثر والأكثرية بحيث يجعل الإنسان نفسه تابعاً للناس ويمش ممشاهم، فهذا يشبه التقليد. لأن أكثر الناس يتبعون الظن ولا يجعلون العقل أساساً.
وهذا ما نجده في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله".

* عدم التأثر بأحكام الآخرين
المسألة الأخرى التي ترتبط بالتربية العقلية هي عدم جعل حكم الناس معياراً وملاكاً للحق. وهذا من الأمراض العامة التي تصيب أكثر الناس.
فمثلاً: إذا اشترى أحدهم لباساً وكان يعتقد بجماله، وجاءه شخص وقال له: ما هذا الثوب الذي اخترته؟؟ ثم يأتي آخرون ويقولون مثله، فإن هذا الإنسان شيئاً فشيئاً سوف يغير رأيه ليجد ذلك الثوب بعد قليل قبيحاً. ولعل بعضهم يقول ذلك لتغيير رأيه.

* المدرس والتلاميذ
هناك قصة ينقلها صاحب المثنوي وهي أن مدرساً كان لديه طلاب كثيرون. (وكان الأساتذة في الماضي يؤذون الأطفال كثيراً) فكان هؤلاء الطلاب ينتظرون ذلك اليوم الذي يتخلصون فيه من هذا المعلم. واتفقوا معاً على أن يأتوا في اليوم التالي فيقول أولهم عند دخوله إلى الصف: جناب الأستاذ لا سمح الله يبدو أنك مريض. فقال الأستاذ: إجلس لست على شيء. ثم يأتي التلميذ الثاني وعندما يدخل يقول: يبدو أن لونك اليوم مصفرٌ.. فقال الأستاذ ولكن بلهجة هادئة قليلاً: إذهب وأجلس مكانك. ثم يأتي التلميذ الثالث ويكرر نفس الكلام، وصوت الأستاذ ينخفض وهكذا حتى قال: ربما أنا مريض اليوم واحتاج إلى راحة وصار الطلاب يطلبون شفاءه فتمدد وبدأ يئن وقال لهم: اذهبوا إلى منزلكم اليوم فإنني مريض جداً.
وهكذا استطاع الأولاد أن يوحوا إليه بالمرض.
قال عليه السلام: "لو كان في يدك جوز وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس أنها جوزة ما ضرك وأنت تعلم أنها لؤلؤة".

* الروح العلمية

اختم كلامي هنا بحديث حول العلم. وهو ما نستفيده من الآيات والأحاديث التي لدينا وينبغي أن ندخلها في فصول التعليم والتربية الإسلامية. في أحد كتبي - وعلى ما أذكر في كتاب الإمدادات الغيبية - ورد هذا الكلام في الفرق بين العالم والروح العلمية. فما أكثر أولئك الذين يمتلكون روحاً علمية ولكنهم ليسوا علماء وما أكثر الذين هم علماء وليس لهم حظ من هذه الروح. فالعالم الحقيقي هو الذي يواءم ما بين الروح العلمية والعلم. فما هو المقصود من الروح العلمية؟
المقصود هو أن ينبع العلم في الأساس من غريزة البحث عن الحقيقة.

فالله تعالى قد خلق الإنسان طالباً للحق، وهو يريد أن يدرك الأشياء كما هي، وهذا يتفرع من اعتبار الإنسان نفسه محايداً وبعيداً عن الأغراض، فالذي ينزه نفسه عن الأغراض والميول الذاتية ويطلب الحقيقة كما هي (لا كما يريد هو) هو الذي يمتلك الروح العلمية. وفي سورة النجم يبين القرآن أن أحد أسباب انحراف الإنسان وضلاله يعود إلى هوى النفس. وكما قيل: "الغرض يجعل الإنسان أحولاً".
ومن يبعد نفسه عن الأغراض الذاتية - وهذا ما يعد أمراً صعباً جداً - فإن الله سوف يهديه. كما قال تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾.
فالروح العلمية هي الروح التي تخلو من التعصب والجمود والغرور. وعندما يطالع الإنسان تلك الروايات التي تتحدث عن موضوع العلم يجدكم قد استند على هذا الأمر وهو أن العالم لا ينبغي أن يكون متعصباً ومعتمداً على ما يجده هو ليس إلا.
بل ينبغي الاعتماد على هذا الأصل: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً وكما يقول طلاب العلوم الدينية: "نحن أبناء الدليل نميل حيث يميل".

(وهذا ادعاء فمن يعمل به: بحث آخر). والنقطة المقابلة هي أن يختار الإنسان مدّعاه ثم يبدأ بالبحث عن دليل له. وبالطبع فإن الدليل الاصطناعي لا يكون دليلاً حقيقياً بل سبباً لضلالة الإنسان. فالعلماء العظام الذي يمتلكون روحاً علمية يكون غرورهم قليلاً جداً أو لا وجود له. في مقابل أولئك الذين تعلموا بعض المصطلحات وقالوا أن هذا هو غاية العلم. جاء في الرواية: العلم على ثلاثة أشبار فإذا وصل إلى الشبر الأول تكبر (ويظن نفسه يعلم كل شيء) وإذا وصل إلى الشبر الثاني تواضع وإذا وصل إلى الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً.

ولهذا ينبغي أن يعطي المتعلم في التربية والتعليم الروح العلمية بحيث لا يظن أن مجرد العلم والمقام هو الغاية بل أن تظهر فيه تلك الروح الباحثة عن الحقيقة والعارية عن الجمود والتعصب والغرور.


أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع