إن الإنسان إذا اقتنع بأن العبادة من الأمور الهامّة، وأنها أكثر أهمية بالنسبة إلى الأمور الأخرى، بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الثانية الأخرى، لحافظ على أوقات العبادة وخصص لها وقتاً.
* المحافظة على أوقات الصلاة
وعلى أي حال لا بد للإنسان المتعبد من أن يوظف وقتاً للعبادة، وأن يحافظ على أوقات الصلاة التي هي أهمّ العبادات وأن يؤديها في وقت الفضيلة، ولا يختار لنفسه في تلك الأوقات عملاً آخر. وكما أنه يخصص وقتاً لكسب المال والجاه والدراسة والبحث، كذلك لا بد أيضاً من تخصيص وقت للعبادات، حتى يكون خالياً من أي عمل آخر، ويتيسّر له حضور القلب الذي هو بمثابة اللبّ والجوهر. ولكن إذا فرضنا أن شخصاً مثلي تكلّف في أداء صلاته، ورأى أن العبادة من الأمور الزائدة، لأجّل صلاته إلى آخر الوقت، ولأتى بها بكل فتور ونقص، لما يرى حين التهيؤ لأداء الصلاة من أن هناك أموراً أخرى في نظره أهمّ منها، وأنها تتزاحم مع هذه الأمور الهامة، فيفضّل غير الصلاة عليها. ومن المعلوم أن مثل هذه العبادة لا نورانية لها، بل تكون مثار سخط إلهي، وأنه مستخف بالصلاة ومتهاون في أمرها. أعوذ باللَّه من الاستخفاف بالصلاة وعدم الاكتراث بها.
* حضور القلب في العبادة
والأهم من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، بل إن تفريغ الوقت مقدمة لتفريغ القلب أيضاً، وذلك لأن الإنسان لدى اشتغاله بالعبادة، يجرّد نفسه من هموم الدنيا وأعمالها، وينقذ قلبه من الأوهام المتشتتة، والأمور المختلفة، ويفرغ فؤاده نهائياً، ويخلّصه مرّة واحدة للتوجه إلى العبادة والمناجاة مع الحق المتعالي. ولو لم يفرغ القلب من هذه الأمور، لما حصل لقلبه ولعبادته التفرغ. ولكن شقاءنا في أننا نترك كل أفكارنا المتشتتة، وأوهامنا المختلفة إلى وقت العبادة، وعندما نكبّر تكبيرة إحرام الصلاة، فكأننا فتحنا باب المتجر، أو دفتر الحساب، أو كتاب الدرس، ونرسل قلبنا للانصراف إلى أمور أخرى، ونغفل كلياً عن العمل العبادي، وعندما ننتبه للعبادة نجد أنفسنا في نهاية الصلاة!وفي الحقيقة إنه لمن ا لفضيحة أمر هذه العبادة، ومما يبعث على الخجل أمر هذه المناجاة. عزيزي: إجعل مناجاتك مع الحق سبحانه بمثابة التحدث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس؛ فإنك إذا تكلمت مع صديق، بل مع شخص غريب انصرف قلبك عن غيره، وتوجّهت بكل وجودك نحوه، أثناء التكلم معه، فلماذا إذا تكلمت وناجيت ولي النعم، ورب العالمين، غفلت عنه وانصرفت عنه إلى غيره؟ هل إن العباد يُقدَّرون أكثر من الذات المقدسة للحق؟ أو أن التكلم مع العباد أغلى من المناجاة مع قاضي الحاجات؟
* تدجين الخيال
نعم أنا وأنت، لا نعرف ما هي المناجاة مع الحق سبحانه. إننا نرى التكاليف الإلهية كلفة، وفرضاً علينا، ومن الواضح أنه متى ما أصبح شيء مّا حملاً ثقيلاً على الإنسان وعلى شؤون حياته، لما اعتبر عنده ذلك الشيء ذا بال وأهمية. إنه لا بد من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان باللَّه، وبكلمات أنبيائه حتى يتم إصلاح الأمور. إن كل تعاستنا من ضعف الإيمان ووهن اليقين. إن إيمان السيد ابن طاووس رضي اللَّه عنه، يدفعه للاحتفال بيوم بلوغه، لأن الحق المتعال قد رخّص له بالمناجاة، وزيّنه بزينة التكليف والخطاب. فلاحظ بكل دقة أيّ قلب هذا الذي يحمل هذا القدر الكبير من النور والصفاء. إذا لم يكن عمل هذا السيد الجليل حجة عليك، فعمل سيد الموحدين عليه السلام وأولاده المعصومين عليهم السلام حجة عليك، فتأمل في حياتهم وكيفية عباداتهم ومناجاتهم، حيث كان لون وجه بعضهم يتغير لدى حلول وقت الصلاة، وتضطرب فرائصه خشية أن يخطئ في الواجب الإلهي، رغم أنهم كانوا معصومين. اشتهر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن سهماً قد أصاب قدمه المباركة، فلم يستطع أن يتحمّل ألم انتزاعه من رجله، فقام وصلّى وفي أثناء اشتغاله بالصلاة، انتُزع السهم ولم ينتبه أصلاً. وعلى أي حال إن تفريغ القلب من غير الحق يعدّ من الأمور المهمة، التي يجب على الإنسان أن يحققها مهما كلف الثمن، والسبيل إلى تحصيله ميسور وسهل، فمع قدر قليل من الانتباه والمراقبة نستطيع أن ننجزه ونحققه. يجب على الإنسان الذي يريد السلوك إلى اللَّه أن يتمكن من إمساك الخيال فترة من الزمان، وإلجامه عندما يريد أن يتحول من غصن إلى غصن آخر ويتشتت. وبعد مضي فترة من المراقبة، يُدَجَّن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتت ويصير الخير من عادته والخير عادة فينصرف فارغ البال إلى التوجه نحو الحق والعبادة.