مقابلة مع سماحة الشيخ خير الدين شريف
حوار: السيّد محمّد السيّد موسى
تحدّثنا في المقال السابق عن العلاقة الخاصّة بين المجاهدين وحضرة السيّدة زينب عليها السلام، في لقاء مع سماحة الشيخ خير الدين شريف، الذي حدّثنا كيف رشحت هذه العلاقة ببعض قصص العشق والتأسّي والإيثار، إلى حدّ الشهادة في جوارها. ولأنّ قصصهم لا تنتهي، حملنا باقة منها في جزء ثانٍ من اللقاء مع فضيلته، ليقصّ علينا أحسن القصص.
•في بداية هذا الجزء من اللقاء، هلّا رويتم كيف بدأ المجاهدون حكايتهم مع المقام؟ لماذا هبّوا إليه؟
بدايةً، كان الحرم مهدّداً من قبل التكفيريين؛ فكانت المظاهرات حول الحرم، على مقربة منه، وعلى حائط المقام، ولا ننسى تلك الكتابات التي كانت تُكتب (سترحلين مع النظام)، والتهديد الذي كان موجوداً، وخاصّة من زهران علوش -أحد قادة التكفيريّين- الذي قال: عندما ننتهي من سوريا سنأتي بذلك الصنم الموجود في ضاحية من ضواحي الشام.
أمام هذا الواقع، تداعى إخواننا من كلّ المناطق السوريّة: حمص، والفوعة، وكفريا، ونبّل والزهراء، وحمل ساكنو منطقة السيدة زينب عليها السلام العصيّ، وكانت مظاهرة مقابل مظاهرة، منعوا التكفريّين من الاقتراب من المقام المبارك، ليصبح عندها محيط منطقة السيّدة زينب عليها السلام ملاذاً لأتباع أهل البيت عليهم السلام والمؤمنين كلّهم. وحينما تشكّلت المجموعات القتاليّة أصبح الشباب يسهرون ويحرسون المقام. هذه الأحداث كانت في أواخر العام 2011م وبداية العام 2012م. وهكذا بدأت الأحداث.
•كيف تصفون الأجواء الروحيّة في مقام السيّدة زينب عليها السلام؟
عندما كان المقام محاصراً (من عام 2012م حتّى 2014م)، حيث كان العدوّ التكفيريّ على بُعد أمتارٍ قليلة من المقام، والزائرون على عدد أصابع اليد، كان المقام يعجّ بالإخوة المجاهدين فقط؛ فعندما كنت أقرأ دعاء كميل مثلاً، قرب ضريح السيّدة زينب عليها السلام، وبعده مجلساً مختصراً، مضافاً إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام، كنتُ أرى دموعهم تنهمر على خدودهم بحرقة وألم. فعلاً كان لتلك الأعمال نكهة خاصّة وروحيّة عالية جدّاً لا مثيل لها.
وهذه الأجواء كانت حاضرة أيضاً عند تشييع الشهداء، حيث كان لا يخلو يوم من ارتقاء شهيد أو شهيدين في البدايات. نطوف بنعوشهم حول ضريح السيّدة عليها السلام، ويترافق ذلك مع شعارات "لبّيكِ يا زينب" و"لبّيكَ يا أبا عبد الله".
•ما هي أهميّة حضور العلماء والمبلّغين بين المجاهدين؟
للعلمــاء والمبلّغيـــن دور مـــؤثّر في الجبهة، فذاك الأخ المجاهد، سواء كان لبنانيّاً أو سوريّاً، عندما يرى صاحب العمّة السوداء أو البيضاء معه في الميدان، سواء في الخطوط الأماميّة أو الخلفيّة، أو في نقاط التجمّع، سوف يتزوّد بمعنويّات كبيرة جدّاً. ويكفي فقط لرجل الدين أن يرتدي البزّة العسكريّة، ويضع العمّة على رأسه، فهذا المشهد وحده كفيل بأن يكون له وقع كبير في نفوسهم. هذا وكان المبلّغون يتعرّضون للخطر، كالمجاهدين تماماً، فمنهم من جُرح، ومنهم من استُشهد. وقد لعب المبلّغون أيضاً دوراً هامّاً في الإجابة عن الأسئلة الشرعيّة المتعلّقة بالوضوء والصلاة وسائر الأمور الابتلائيّة ذات الأهميّة للمجاهد، فالميدان له أحكام خاصّة به.
•ما هو الدور الذي لعبه حضور القادة في الميدان؟
إنّ حضور القادة في الميدان له دور وتأثير كبيران على الإخوان في ساحات القتال؛ فقد كنتُ أرى عدداً من هؤلاء القادة في الميدان، كالشهيد علاء البوسنة، والشهيد أبو تراب، والشهيد علاء الـ125، وغيرهم. فهؤلاء لم يكونوا في مؤخّرة الركب، بل كانوا في المقدّمة إلى جانب المجاهدين، وقد استشهد عدد منهم في معارك مختلفة.
فهذا المجاهد عندما يرى قائده أمامه، طبعاً سوف يعطيه هذا المشهد معنويّات عالية جدّاً.
•كيف كان يتعاطى المجاهدون مع ممتلكات الناس؟
كان المجاهدون يحافظون على أموال الناس وممتلكاتهم، فكانوا لا يستخدمون شيئاً إلّا بإذن صاحبه، وفي حال تعذّر ذلك، يطلبون المسامحة منه لاحقاً. فكانوا إذا ما دخلوا بيتاً ما، ووجدوا فيه الذهب والمال مثلاً، يأخذونه إلى مكان آمن، ويحفظونه هناك إلى حين عودة صاحبه. وبالفعل، كان الإخوة يعيدون إلى كلّ ذي حقّ حقّه بالتمام والكمال.
هذا، وكانوا يدفعون بدل إيجار للبيوت التي يقطنون فيها لبعض المهامّ الخاصّة.
وسيكتب التاريخ فيما بعد أنّ هـناك ثلّـة من المؤمنيـــن المجاهـدين قضَــوا وقدّمـــوا دماءهم وأرواحهم في سبيل الله، وفي سبيل حفظ مقامات أهل البيت عليهم السلام، وفي سبيل الكرامة والعزّة.
•ماذا عن قصص العشق ومجاورة العقيلة؟
- سبقــني من المشــــوار الأوّل
في أحد الأيّام، حيث كنّا نُشيّع شهيداً من آل المقداد (64 سنة تقريباً) في المقام، كان قد استشهد من المشاركة الأولى له في حلب، التقيتُ بشابٍّ من عائلته، وكان يحمل معنا النعش لنطوف به حول المقام، فسألته: "ما صلتك بالشهيد؟"، فقال لي مبتسماً: "إنّه أبي، لقد سبقني يا مولانا، أنا في سوريا منذ أربع سنوات، وهو قد استشهد من مشواره الأوّل، هنيئاً له".
•المجاهدون السوريّون لهم دورهم في تلك الأحداث، هل تتذكّرون حادثة ترتبط بهم على هذا الصعيد؟
- "ألا تدعو لي بالشهادة؟"
هناك مجاهد سوريّ اسمه علي الحْمُود من الفوعة، وكان يصرّ على المشاركة في إحدى المهام الحسّاسة والخطيرة، قال لي مرّة: "مولانا، لم أعد أحتمل البقاء، أريد المشاركة في تلك العمليّات"، فطلبتُ منه التروّي. مضت الأيّام، وذهبتُ ذات يوم إلى البادية، وعندما وصلنا إلى موقع متقدّم جدّاً، وإذ علي الحْمُود هو مسؤول الموقع هناك، فقال لي: "مولانا، ألا تدعو لي بالشهادة؟"، فقلت: "يمكن أن يكون الله سبحانه وتعالى قد ادّخرك لعمل معيّن، فاصبر". وبالفعل، بعد فترة، استشهد هذا الأخ في معارك البادية، فنال ما تمنّى. ذهبتُ إلى أهله لأقوم بواجب التعزية، فكان لوالدته كلام رائع جدّاً: "لقد وهبته للسيّدة زينب وللإمام الحسين عليهما السلام".
- "لا تخطئ هدفك أيّها القنّاص"
كان هناك شابٌّ من الإخوة السوريّين يُدعى عبد الحكيم، انخرط في صفوف اللجان الشعبيّة لحزب الله. وعندما استُشهد، وُجد في جيبه ورقة صغيرة مكتوب عليها: "أيّها القنّاص، لا تُخطئ هدفك. اضربني في جبهتي حتّى أذهب إلى الله عزّ وجلّ، وأتشرّف بلقيا الحسين وزينب عليهما السلام".
•مفقود الأثر
عمران، شابٌّ إيرانيّ تربّى في مقام السيّدة زينب عليها السلام مع إحدى العائلات، بعدما توفيّ والداه في حادث سير هناك، فنشأ على حبّ السيّدة زينب عليها السلام إلى حدّ العشق والتعلّق بمقامها المبارك. وقد ترجم ذلك عندما كان من الأوائل الذين هبّوا لنصرة السيّدة زينب عليها السلام والدفاع عن مقامها. سمع عمران ذات يوم أنّ المسلّحين هجموا على منطقة المطاحن في الغوطة الشرقيّة، فخرج مسرعاً متسلّحاً بالعقيدة والإيمان أوّلاً، وبالبندقية ثانياً، وتوجّه لنجدة إخوانه المجاهدين، فاستشهد في تلك المعركة الضارية، وبقي جسده مع التكفيريّين، ولا يزال مفقود الأثر إلى يومنا هذا.